المياه والأمن الغذائي وأشياء أخرى

كتب /  محمد شريف أبو ميسم

يرتبط مفهوم الأمن الغذائي ارتباطا وثيقا بملف المياه، اذ تصاب بالضرر كل أدوات وامكانيات تحقيق الأمن الغذائي جراء نقص المياه، ما جعل هذا الملف أداة مهمة في سياسات الدول المتشاطئة الرامية لتحقيق التوازنات في المصالح، أو لفرض الارادات، حيث لا سيادة لأي دولة دون تحيق أمن غذائي نسبي على أقل تقدير، الأمر الذي يفسر تمويل شركات العولمة التي تقف وراء مشروع الشرق الأوسط الجديد، لمشاريع “سد النهضة في اثيوبيا الذي سيتحكم بمياه نهر النيل،

 بتمويل من شركات ايطالية وفرنسية، بجانب الدعم المالي الذي قدمه البنك الدولي، وكذا الأمر بالنسبة لمشروع الكاب التركي الذي يتكون من 22 سدا على روافد دجلة والفرات يتقدمها سد أليسو على نهر دجلة، الذي بدأ العمل به فعليا عام 2006 ودخل حيز التشغيل الكامل عام 2020 “، بتمويل من بنوك وشركات أميركية واوروبية من بريطانيا والسويد والنمسا وسويسرا وفرنسا وايطاليا، بجانب وكالات ائتمان التصدير ECAS في المانيا وسويسرا، وجميعها ذات ارتباط مباشر أو غير مباشر مع شركات العولمة التي تحكم العالم، بجانب الدعم المالي، الذي حصل عليه المشروع من البنك الدولي والحكومة التركية. 

وعلى الرغم مما قيل عن انسحاب بعض الجهات الدولية التي مولت مشروع “الكاب” لذر الرماد في العيون بدعوى الاعتراض على الأضرار، التي سيلحقها المشروع بالعراق وبالمناطق الأثرية في جنوب هضبة الأناضول، بعد سنوات من العمل والتمويل، إلا أن العمل بقي متواصلا حتى اكتملت ملامح التحكم بمصادر المياه في الأراضي الممتدة من النيل إلى الفرات، في سياقات المشروع القائم تحت الشعار الصهيوني” من الماء إلى الماء تترامى أطراف الدولة الصهيونية الكبرى”. 

والذي نستهدفه هنا ونحن بصدد ملف المياه ومفهوم الأمن الغذائي، هو البحث عن ما يحفظ السيادة العراقية عند نقطة تطابق المصالح التركية مع أهداف القائمين على مشروع الشرق الأوسط الجديد، اذ تسعى تركيا من خلال تحكّمها وهيمنتها على نحو 70 بالمئة من مصادر المياه العراقية لضمان استمرار حصولها على النفط والغاز العراقي، وضمان ابقاء السوق العراقية قائمة على المنتجات الغذائية المنتجة في تركيا، من خلال الاغراق السلعي مدعوما بفارق كلف الانتاج بين البلدين، ومن ثم تكريس تراجع القطاع الزراعي في العراق، واستبعاد امكانيات تحقيق الأمن الغذائي على المدى القريب والبعيد، وبالتالي ضمان بقاء العراق مستهلكا وحسب، بعد أن وصل حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا إلى نحو 20 مليار دولار سنويا في العام 2024، بجانب ما يتم الاعداد له بشأن طريق التنمية، الذي سيؤسس لدعم القطاعات الساندة لحركة التجارة على الأراضي العراقية، وهذا شيء حسن، ولكن ليس على حساب القطاع الزراعي الذي عادة ما تكون دورة رأس المال فيه بطيئة ومحفوفة المخاطر بالقياس لدورة رأس المال في القطاعات الأخرى. 

وبشح المياه تكون البلاد عرضة لتداعيات توظيف ملف الأمن الغذائي في الضغط على الحكومات المتعاقبة، ويكون من الصعب المناورة في القرارات المصيرية ذات الصلة بالضغط الدولي.

إن ما يعد للعراق حاليا في هذا الصدد، لا يقف عند ملف المياه الذي سيكون بيد الجانب التركي، ومعه ملف الأمن الغذائي بدعم من شركات العولمة، بل ينسحب إلى الحقيقة، التي تقف وراء أسباب تلكؤ الملفات الأخرى، من قبيل ملف الطاقة الكهربائية الذي أريد له أن يكون بيد الشركات التي تحكم العالم وفي مقدمتها شركة “جنرال الكترك”، وهذا ما أكده الاتفاق الموقع مع الشركة في التاسع من نيسان الماضي للإنتاج 24 ألف ميكا واط، وملف التنمية الذي بقي معطلا ليكون بيد رساميل العولمة، بعد أن أصبح الملف المالي والنقدي حكرا على الفيدرالي الأميركي والخزانة الأمريكية، وما تجاوز الشركات النفطية العالمية مؤخرا على الدستور العراقي في عقودها مع الاقليم، الا دليلا على ما نذهب اليه، الأمر الذي يحتاج إلى رؤية وطنية، ودراسة علمية دقيقة واجراءات مسؤولة، لتجنيب البلاد مخاطر تغول شركات العولمة في البلاد، والحفاظ على ارادة القرار الوطني، في ظل ليبرالية السوق التي تضع سلطة رساميل العولمة محل سلطة الدولة في الدول الحديثة الديموقراطية.