مزراب الشرق الأوسط..!
كتب / محمد صادق الحسيني ...
السلام عليكم إخواني.
كثير من العرب ما زالوا حتى اليوم يظنون أن قطر لغزٌ غامض، وأنها دولة «صغيرة» تمشي بين العمالقة وتناور ببراعة، وأنها ربما تقف إلى جانب المقاومة في حينٍ وتساير أمريكا في حين آخر. يتساءل الناس: كيف تُوفِّق قطر بين استضافة قيادة حماس في الدوحة، وبين وجود قاعدة العديد، أضخم قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، على أرضها؟
كيف تُوفِّر قناة الجزيرة مساحة تنفيس هائلة للغضب الشعبي العربي ضد الهيمنة الأمريكية وضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه تُعيد إنتاج الرواية الأمريكية في اللحظة الحاسمة؟
أهي مع إيران أم ضدها؟ أمع فلسطين أم مع واشنطن؟ هذه الأسئلة ليست لغزًا، بل الإجابة أبسط بكثير: قطر ليست دولة «ثائرة» ولا «حيادية» ولا «استثنائية»، بل هي مزراب الإمبراطورية الأمريكية في المنطقة، أو إذا أردنا بلغةٍ أفصح: المصرف الذي تصرّف من خلاله أمريكا غضب الشعوب، وتُعيد تدويره ليصبّ في مجرى مصالحها.
إنّ وظيفة المزراب في العمارة معروفة: مجرى ضيق يصرِّف الماء الزائد فيمنع الفيضان، لكنه في النهاية لا يغيّر من طبيعة البنيان شيئًا. هذا بالضبط دور قطر. تمنح الشعوب عبر الجزيرة تسعين بالمئة مما تريد سماعه: نقد صارخ للأنظمة العميلة، انحياز لفلسطين، تغطيات ثورية تُشعرك أنك أمام منبر حرّ. لكن الخطورة أن ما يهمّ الإمبراطورية الأمريكية ليس هذا التسعين بالمئة، بل العشرة بالمئة الباقية. تلك اللحظة التي يُعاد فيها تأطير كل هذا الغضب الشعبي ليخدم فكرة أن واشنطن هي الوسيط، أن الحلّ بيد أمريكا، وأن قطر هي القناة «المحايدة» التي تُتيح التفاوض والترويض.
من أجل ذلك تحتضن قطر قاعدة العديد منذ عام 1996، التي تحوّلت مع الزمن إلى أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، مركز القيادة الجوية للعمليات الأمريكية من العراق إلى أفغانستان. من هذه القاعدة أُدير غزو بغداد سنة 2003، ومنها انطلقت الطائرات لقصف ليبيا عام 2011، ومنها تُدار مهمات الطائرات المسيّرة فوق اليمن وسوريا. إذا أردت أن تفهم قطر، فانظر إلى هذه القاعدة: إنها ليست «تفصيلًا»، بل قلب المشروع.
لكن، هل هذا جديد؟ هل الإمبراطوريات لم تحتج دائمًا إلى «مزاريب» كهذه؟ هنا تأتي المقارنة التاريخية الضرورية.
بريطانيا في القرن التاسع عشر لم تبسط سيطرتها عبر المدافع وحدها. كانت بحاجة إلى كيانات صغيرة محلية، تُظهر وجه «المعارضة»، لكنها في الحقيقة مجرد وكلاء. في الخليج مثلًا، أنشأت بريطانيا «الإمارات المتصالحة» منذ 1820، كيانات محلية أعلامها تُرفرف، لكنها لا تملك قرار حرب أو سلم دون لندن. في شرق أفريقيا، استخدمت سلطنة زنجبار كواجهة للتجارة والاستعمار. في الهند، أبقت مئات الممالك الأميرية «مستقلة» شكليًا تحت راياتها، لكنها عمليًا لم تكن سوى أذرعٍ للإمبراطورية. كل قوة عظمى تحتاج إلى هذا النوع من المصارف: منفذ يبدو محليًا ومستقلًا لكنه يؤدي وظيفة مركزية لصالح المستعمر. قطر اليوم هي النسخة الأمريكية من هذا النموذج البريطاني.
مثلاً، في ليبيا 2011 كانت قطر المورّد الأول للفوضى. طائراتها نقلت السلاح، أموالها غذّت الفصائل، والجزيرة شرعنت القصف الأطلسي باسم «الثورة». لم تكن مع الحرية، بل مع تحويل ليبيا إلى فراغ يسهل على الغرب إعادة هندسته.
وفي سوريا 2012 صُرفت مليارات قطر على الفصائل، لكن النتيجة لم تكن تحرير دمشق، بل تفتيت المعارضة بين رعاة. الجزيرة نقلت المعاناة، لكنها أعادت صياغة الصراع كمواجهة بين واشنطن وموسكو، لتقدّم قطر كوسيط.
أما في غزة فكان الأمر أوضح: الأموال القطرية لا تدخل إلا بإذن إسرائيلي. حين تسمح تل أبيب تدخل الحقائب، وحين تمنع تُغلق الأبواب. تحولت قطر إلى «محفظة مالية» تُبقي الناس على حافة الجوع من دون أن تسمح بانفجار شامل. هل هذه مقاومة أم صمام أمان لإسرائيل؟
هنا يظهر الفارق مع السعودية والإمارات. «العربية» و«سكاي نيوز» أبواق مكشوفة، خطابها فجّ لا يُقنع أحدًا. بروباغندا غبية. أما قطر فتبنّت البروباغندا الذكية: تمنح الشعوب حرية الصراخ، ثم تعيد صياغته ليخدم الهيمنة. الجزيرة أخطر لأنها بروباغندا ناعمة، معك وضدك معًا.
وهذا يجعلها شبيهة بالكيانات التي استخدمتها بريطانيا. السعوديون والإماراتيون نسخة مكشوفة، أما قطر فهي النسخة الأخبث: المزراب الذي يخدعك حتى اللحظة الأخيرة.
الشعوب العربية بحاجة إلى منبر تصرخ فيه. الجزيرة منحتهم ذلك، لكنها حولت الصرخة إلى دائرة مغلقة، تنفيس لا يغيّر القرار.
إخواني، قطر ليست لغزًا. هي مشروع قديم جديد، يعيد أدوات الإمبراطوريات بذكاء. لا تختلف عن «الحجاز» زمن بريطانيا حين استُخدم ثم تُرك، ولا عن الممالك الأميرية في الهند أو الإمارات المتصالحة. كل إمبراطورية تحتاج إلى مزراب. وأمريكا اليوم وجدت في قطر مزرابها الذي يصرف ويخفف الغضب الشعبي!