أنقرة تبني السدود، وبغداد تبني الأعذار
كتب / طه حسن الأركوازي ||
في كل مرة يظن العراقي أنه بلغ قاع الأزمات ، يكتشف أنه ما زال هناك قاعٌ أعمق ، وهذه المرة لا دخان حرب ولا صوت أنفجار ، بل عطشٌ يسري بهدوء بين الأنهار اليابسة ، تركيا قررت أن تشن حربها الأكثر خُبثاً وهدوءاً “حرب الماء ، حربٌ بلا رصاص” ، لكنها تقتل ببطء أشد من الرصاص .
لقد أنخفض خزين العراق المائي إلى حدودٍ تقشعر لها الأبدان نحو 4% من الطاقة الكلية رقمٌ صغير في هيئة الأرقام ، لكنه يختصر مأساة بلدٍ كامل فالمحافظات الجنوبية التي كانت تزهو بنخيلها وأنهارها باتت اليوم تلهثُ خلف قطرة ماء صالحة للشرب ، البصرة تلك المدينة التي راجت تسميتها «فينيسيا الشرق» ، تحولت إلى خير شاهدٍ على التهافت البائس بين أمواج الملح وصرخة العطش ، وذي قار التي ألفت الكتابة والحضارة ، تكتب اليوم رسالة أستغاثة على رمالٍ متشققة .
والحكومة ، كعادتها أكتشفت الكارثة مُتأخرة بعد أن بلغ العطش أغلب البيوت والأراضي ، ثم جاءت الجولات الاعتيادية “لجانٌ ، بياناتٌ ، وفودٌ ذاهبةٌ إلى أنقرة عائدةً محملةً بعبارات المجاملة والدبلوماسية الرقيقة” ، وعودٌ تتبدد كما يتبدد السُحب فوق السدود ، المُبرر الرسمي الأبرز « التغير المناخي » ، وكأن المناخ بنى السدود ، ونسج السياسات ، بينما منطق الدولة يختبئ خلف عذرٍ جاهزٍ لكُل خجل سياسي .
الأسئلة البسيطة اليوم تبقى بلا إجابة ، لماذا يزداد عطشنا كُلما أمتلأت خزاناتهم .؟
ولماذا تتقلص أنهارنا مع أرتفاع منسوب بحُيراتهم الصناعية .؟
الحقيقة واضحة بذاتها فما يحصل من أبتزاز مائي مُمارس بوعي جيوسياسي ، وحكومةٌ عراقية ترد بأبتسامةٍ دبلوماسية ، حتى ليتبقى لنا أن نشكرهم على تقليص منسوب نهرنا وحجم طموحنا ، لكن جريمة العطش ليست فقط توقيع أنقرة ، توقيعٌ مزدوجٌ يقع على جبين بغداد ، الإهدار الداخلي أكمل ما بدأه الخارج ، طُرق ري بالية ، مشاريع مائية تُدار بعقليةٍ ما قبل الحضاره ، فسادٌ ومُحاصصة وإهمالٌ يلتهمون الجهد والموارد ، بينما تُصدر وزارة الموارد بياناتٍ موسمية ، يُروى الفلاحون أرضهم باليأس ، لا تخطيط ولا إصلاح ، وإرادةٌ وطنية تبدو كماءٍ على ورق .
الأزمة اليوم تتجاوز بُعدها البيئي والأروائي لتصبح مسألة “أمنٍ قومي” ، فالماء ليس رفاهية ، بل شريان حياة ومن يُسيطر على مصدره يُسيطر على مُقدرات دولة ، ومتى ضعفت الإدارة داخل الدولة ، صارت سيادتها عرضة للأبتزاز الخارجي ، لقد تحول العراق من بلد الأنهار إلى بلد البيانات ، ومن دولةٍ تتحدث عن السدود إلى منظومةٍ تبني أعذارها على هوامش المكاتب .
الطبقة السياسية تواصل التعاطي بعقلية «ننتظر المطر» ، كأن المطر وزارة جديدة تُضاف إلى محفظة الوزراء ، يغيب الفعل وتعمّ التبريرات ، يغيب الموقف وتحضر الابتسامة ، ويغيب الوطن وتكبر المصالح الحزبية ، حتى هتافات البصرة عطشاً لا تصل إلى مناصبٍ باتت أعينها معلقةً بتوازنات المحاصصة أكثر من مياه الدولة ، إن ما يحتاجه العراق ليس إجتماعاً آخر ، بل قراراً حاسماً يُعيد تعريف العلاقة المائية مع الجوار ، ويجعل أحترام الحقوق المائية شرطاً لا مساومة عليه ، مواردُ الدولة تُدافع عنها السياسات والعلاقات الاستراتيجية الصلبة ، لا بياناتٌ مُتحاملة على الواقع ، إذا فهمت أنقرة لغة القوة ، فليقم في بغداد من يفهمها أيضاً ليس بلغة التهديد ، ولكن بلغة الدولة التي تعرف كيف تحمي مواردها وتدافع عن سيادتها .
أخيراً وليس آخراً .. إلى من يتقنون فن التبرير أكثر من فن الإصلاح نقول “حين تجف الأنهار لا تبحثوا عن المطر ، ابحثوا عن أنفسكم” ، العراق لا يحتاج إلى من يفاوض بأسمه ، بل إلى من يُقاتل ويُقدم من أجله ، وإن لم تسقوه بالماء ، فأسقوه على الأقل بجرعة من الكرامة والمسؤولية …!