هل أمريكا قادرة على تنفيذ أحلامها وأمنياتها في العراق؟
كتب / عباس النوري العراقي
منذ عام 2003، والولايات المتحدة الأمريكية تحاول إعادة رسم المشهد السياسي والأمني والاقتصادي في العراق بما ينسجم مع مصالحها في المنطقة. لكنّ الواقع العراقي، بتعقيداته العقدية والاجتماعية والسياسية، جعل تحقيق هذه الأهداف أمرًا بالغ الصعوبة. إن ما بين الشعارات الأمريكية البراقة وبين ما يُنفّذ فعليًا على أرض الواقع، مسافة كبيرة من الفشل والتناقضات.
أولًا: بين الشعارات والخطط العملية
تتحدث أمريكا في خطابها الرسمي عن “الديمقراطية” و“حرية الشعوب” و“حقوق الإنسان”، لكنها في الواقع تسعى لترسيخ نفوذها العسكري والاقتصادي والسياسي في العراق والمنطقة. ما يُطرح في غرف مراكز القرار الأمريكية ليس سوى مشاريع لإعادة إنتاج الهيمنة بأشكال جديدة، سواء عبر “التحالفات الأمنية”، أو “برامج الدعم الاقتصادي” المشروطة.
إلا أن الواقع العراقي يختلف؛ فالعراق لم يعد أرضًا رخوة يسهل اختراقها كما في السنوات الأولى للاحتلال. اليوم توجد فصائل مقاومة مسلحة تمتلك أحدث الأسلحة والتقنيات، وتستند إلى قاعدة جماهيرية واسعة تؤمن بقدسية الدفاع عن الوطن وعن نهج أهل البيت عليهم السلام. هذه الفصائل لا تتحرك بدافع سياسي مؤقت، بل بدافع عقدي وإيماني، يجعلها مستعدة للتضحية مهما بلغت التحديات. ومن هنا، فإن أي مشروع أمريكي يتجاهل هذه الحقيقة محكوم عليه بالفشل منذ بدايته.
ثانيًا: الموقف الشيعي بين المرونة والثبات
من الملاحظ أن بعض القيادات الشيعية أبدت في السنوات الأخيرة تعاملًا مرنًا مع بعض الجهات الداخلية والخارجية، رغم أن خطاباتها العلنية تبدو معادية للنهج الأمريكي والصهيوني. غير أن هذه المرونة قد تُفسَّر من زاوية سياسية لا عقدية؛ فهي محاولة لتجنّب المواجهة المباشرة، أو للحفاظ على مساحة من المناورة السياسية.
لكن الثابت أن القاعدة العقدية لدى الغالبية من أبناء المذهب، والفصائل المقاومة، لا تزال تعتبر أن الارتباط العقدي بالجمهورية الإسلامية وقرارات ولاية الفقيه يمثل امتدادًا طبيعيًا لمنهج أهل البيت عليهم السلام، وأنّ الموقف من أمريكا وكيان الاحتلال لا يمكن أن يكون محل مساومة.
من هذا المنطلق، فإن “عملية التطبيع الناعمة” التي تحاول واشنطن تمريرها من خلال وسائل الإعلام أو العلاقات الاقتصادية والثقافية، لن تنجح في تحقيق أهدافها طالما أن الوعي الشعبي والعقدي ما زال يقظًا ومحصنًا بالفكر الحسيني المقاوم.
ثالثًا: ملفات مارك سافايا والزيارة الأمريكية
من المتوقع أن يطرح المسؤول الأمريكي مارك سافايا في زيارته إلى بغداد عدة ملفات حساسة، أبرزها:
1. إعادة تنظيم الوجود العسكري الأمريكي تحت عناوين “التعاون الأمني” أو “مكافحة الإرهاب”.
2. الضغط لتقليص نفوذ الفصائل المسلحة ودمجها ضمن مؤسسات الدولة الرسمية.
3. تعزيز العلاقات الاقتصادية بين العراق والشركات الأمريكية لتقييد القرار الاقتصادي العراقي.
4. محاولة تمرير تفاهمات ضمنية لتهدئة الموقف العراقي تجاه مسألة التطبيع مع “إسرائيل” عبر وسائل ناعمة وغير مباشرة.
إلا أنّ هذه الملفات تصطدم بعائق جوهري: وهو الشارع الشيعي العقدي الذي ما زال يرى في أمريكا قوة معادية للمنهج الإيماني، وأنها الطرف الرئيس في إشعال الفتن الإقليمية. فهل تأخذ أمريكا هذا الرأي في الاعتبار؟
التجربة الطويلة تؤكد العكس؛ إذ كثيرًا ما تجاهلت واشنطن البنية الاجتماعية والدينية العراقية، وهو ما جعلها تفشل في بناء نفوذ مستقر داخل العراق رغم مرور أكثر من عقدين.
رابعًا: القوى السنية والكردية بين دعم المشروع الأمريكي ورفض الشارع
تلعب القوى السياسية السنية والكردية دورًا مهمًا في موازين الداخل العراقي، إذ يجد بعضها في المشروع الأمريكي وسيلة لضمان مصالح مناطقية أو حزبية، خصوصًا تلك المرتبطة بالوجود العسكري الأمريكي أو العلاقات الاقتصادية والأمنية المشتركة.
إلا أن الشارع السني والكردي لا يشارك هذه الرؤية بالكامل؛ فكثير من أبناء هذين المكونين يرون أن ارتباط بعض قياداتهم بالمشاريع الخارجية لا يمثلهم، وأن القرارات التي تُتخذ باسم المكون لا تعبّر عن تطلعاتهم الوطنية.
في المقابل، تتعامل القيادات الشيعية مع هذه المعادلة بحذر، محاولةً الحفاظ على سياسة داخلية هادئة لتجنّب الصدام الداخلي، وتركيز الجهود على مواجهة الأخطار الخارجية التي تستهدف وحدة العراق وسيادته. هذه السياسة الهادئة تمثل خيارًا استراتيجيًا لتفادي التفكك الداخلي، ولتوحيد الموقف الوطني في مواجهة التدخلات الأجنبية، سواء كانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية.
خامسًا: حدود القدرة الأمريكية
من الناحية العملية، قد تملك أمريكا أدوات ضغط اقتصادية وإعلامية وسياسية، لكنها لا تملك القدرة على تغيير الإيمان والعقيدة. العراق اليوم ليس كما كان عام 2003، فقد تشكّل فيه وعي مقاوم جمع بين التجربة الأمنية والعقيدة الراسخة.
وعليه، فإنّ أهداف أمريكا المعلنة – كالاستقرار والازدهار – تخفي وراءها مشاريع غير معلنة، منها تفكيك وحدة الموقف الشيعي، وجرّ العراق تدريجيًا نحو التطبيع. لكن هذه المشاريع تصطدم بعقيدة “الرفض” المتجذّرة في المجتمع العراقي، المستمدة من مدرسة كربلاء التي علّمت الأجيال أن الشهادة فوز، وأن الكرامة لا تُشترى.
الخاتمة
إن أمريكا قد تنجح في تمرير بعض التكتيكات السياسية المؤقتة، لكنها لن تستطيع تنفيذ أحلامها الكبرى في العراق ما دام هناك إيمان حيّ، ومقاومة صادقة، ووعي عقدي يميز بين الشعارات الزائفة والحقيقة الأبدية.
فالعراق الذي قدّم آلاف الشهداء من أجل الكرامة والسيادة، لن يكون لقمة سائغة في فم المشاريع الأمريكية، لا اليوم ولا غدًا.