القضاء العراقي بين وعد العدالة ومواجهة الخطاب الطائفي
كتب / عباس النوري العراقي
تصريحات رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي فائق زيدان، التي أكد فيها أن القضاء سيستبعد أي مرشح يستخدم الخطاب الطائفي حتى لو فاز بمقعد نيابي، لم تكن مجرد حديث عابر في مقابلة إعلامية، بل يمكن اعتبارها وعدًا رسميًا وطنيًا من أعلى سلطة قضائية في البلاد.
كمواطن، أرى في هذا التصريح التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا يعيد الثقة بدور القضاء كحارس للدستور وضامنٍ لوحدة المجتمع، خصوصًا في ظل ما يشهده العراق من احتقان سياسي وتنافس انتخابي حاد تُستخدم فيه أحيانًا مفردات تمزّق النسيج الوطني بدل أن توحّده.
جوهر الرسالة القضائية
حديث القاضي زيدان حمل ملامح مرحلة جديدة، فالقضاء – بحسب ما أوضح – لن يكون متفرجًا على الفوضى الخطابية التي تسبق الانتخابات، بل سيكون رقيبًا على كل من يتجاوز الحدود الوطنية ويتلاعب بالمشاعر المذهبية لتحقيق مكاسب انتخابية.
القانون، كما أشار زيدان، يجرّم الخطاب الطائفي، ويترتب عليه استبعاد المرشح حتى بعد فوزه، وهو موقف جريء طال انتظاره في بلد دفع ثمن الانقسام والفتنة دمًا ودموعًا منذ عام 2003.
المسؤولية الموازية للمفوضية
القاضي شدد على أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تتحمل الجانب التنفيذي والإداري، بينما يتدخل القضاء في الرقابة والطعن، ما يعني أن العمل المقبل يتطلب تنسيقًا صارمًا بين المؤسستين لمنع تسلل الخطاب المتطرف إلى العملية الديمقراطية.
كذلك، بيّن أن شروط الترشح يجب ألا تُستخدم لإقصاء المنافسين، في إشارة إلى أهمية العدالة الانتخابية، ولكن ضمن إطار يحفظ السلم الأهلي ويمنع التحريض.
—
حين تتحول الكلمة إلى سلاح
الخطاب الطائفي لا يقتصر على التحريض العلني، بل يتجلى أحيانًا في التلميح والتلميح المقصود، وفي المزايدة على الانتماءات المذهبية أو المناطقية.
ومن خلال متابعة التصريحات السياسية في الدورات السابقة، يمكن الإشارة إلى نماذج واقعية من قيادات ومرشحين خالفوا روح الدستور والوحدة الوطنية:
1. تصريحات بعض قيادات الكتل السنية التي وصفت مناطق معينة بأنها مظلومة بسبب “الهيمنة الشيعية”، مما غذّى الإحساس بالانقسام بدل المطالبة بحقوق وطنية جامعة.
2. خطابات بعض الشخصيات الشيعية المتشددة التي ربطت الانتماء المذهبي بولاء سياسي محدد، في حين أن الدستور لا يعرف الانتماء إلا للوطن.
3. بعض المرشحين الكرد استخدموا لغة التهديد بالانفصال أو تعليق المشاركة في حال عدم الحصول على مكاسب سياسية، وهي لغة تبتعد عن روح المشاركة الوطنية.
4. كما أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت منبرًا غير منضبط، تُطلق فيها خطابات الكراهية تحت غطاء الحملات الانتخابية أو “حرية التعبير”.
هذه النماذج لا تمثل المكونات العراقية بقدر ما تمثل أزمة ثقافة سياسية تحتاج إلى إصلاح جذري، يبدأ من تطبيق حازم للقانون الذي أشار إليه القاضي زيدان.
—
القضاء والفرصة التاريخية
إن إصرار القضاء على مبدأ المساواة أمام القانون، ورفضه أي حصانة خارج إطار العمل النيابي، يشكل فرصة تاريخية لترسيخ دولة المواطنة.
ولعل تعديل النصوص الدستورية المتعلقة بحصانة النواب، كما دعا إليه القاضي زيدان، خطوة في الاتجاه الصحيح لتطهير الحياة السياسية من الحماية الزائفة التي يتستر خلفها بعض الفاسدين والمحرّضين.
—
خاتمة: القضاء صمام الأمان
كمواطن، أعتبر حديث رئيس مجلس القضاء الأعلى وعدًا بعودة الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة، ورسالة واضحة بأن المرحلة المقبلة لن تقبل بازدواجية الخطاب ولا بتزييف الوعي عبر الفتنة.
فالعراق اليوم بحاجة إلى صوت القانون لا صوت المذهب، إلى وعي وطني لا شعارات انتخابية آنية.
وإذا ما التزم القضاء بما وعد به، فستكون الانتخابات القادمة نقطة تحول حقيقية نحو بناء وطن لا يُفرّق بين أبنائه إلا بمقدار عطائهم ونزاهتهم.