لماذا يتكرّر الفشل في العراق رغم تغيّر الحكومات .؟!
كتب / طه حسن الأركوازي ||
من يتأمل المشهد العراقي اليوم يدرك أن الأزمة لم تكن يوماً أزمة أشخاص أو حكومات بقدر ما هي أزمة رؤية غائبة وبوصلة سياسية مفقودة ، فمنذ عام 2003 ، تتابعت الحكومات وتغيّرت الوجوه ، لكن جوهر الدولة بقي عالقًا في المكان نفسه ، دولة تُدار بردّات الفعل بدل التخطيط، وبالتسويات بدل المشاريع ، وبالطموحات الشخصية بدل الرؤى الوطنية ، وهنا تتضح المعضلة الأساسية “دولة بلا منهج ، تتقدّم فيها الأزمات فيما تتراجع فرص البناء” .؟
لقد كشفت التجربة العراقية خلال العقدين الماضيين أن غياب البرنامج الحقيقي لأي حكومة كان العامل الأكثر تأثيراً في تعطيل مسار الدولة ، فالعراق ظلّ بلا صناعة قادرة على النهوض بأقتصاده ، وبلا زراعة تُشكل رافعة للأمن الغذائي ، وبلا أستثمار طويل الأمد يخلق طمأنينة للسوق ، وبلا سياحة يمكن أن تكون مورداً أقتصادياً كبيراً كما هي في دول أقلّ مقومات ، كل ما تقدّم كان ضحية سياسات لم تؤسس لأستراتيجية وطنية ، بل أكتفت بإدارة الوقت بأنتظار أرتفاع أسعار النفط أو أستقرار الظروف الخارجية .
والمشكلة الأعمق أن الاقتصاد العراقي بقي رهينة الريع النفطي بنسبة تتجاوز ال 90 % من إيرادات الدولة ، أقتصاد من هذا النوع لا يصنع دولة ، بل يخلق طبقة سياسية تعتمد على موارد جاهزة بدل الابتكار والإنتاج ، ومع مرور الوقت تحوّل الريع من نعمة أقتصادية إلى قيد سياسي ، لأنه منح القوى الحاكمة قدرة على إدارة السلطة عبر توزيع المنافع بدل بناء مؤسسات مستقرة ، ولعلّ أكثر ما أضعف مؤسسات الدولة هو أن القوى السياسية لم تتعامل مع الدولة كمشروع وطني ،
بل كمساحة نفوذ تُقاد فيها القرارات عبر موازين القوة لا عبر مصلحة المجتمع ، لكن الأزمة ليست قدراً محتوماً تجارب دول عديدة مرّت بظروف مشابهة للعراق ثم تمكنت من تجاوز كبوتها ، “فماليزيا” في ثمانينيات القرن الماضي كانت تعاني أقتصاداً ريعياً ومشهداً سياسياً مُنقسماً ، لكنها أنتقلت إلى مصاف الدول الناهضة حين تبنّت رؤية واضحة ترتكز على التصنيع والاستثمار والتعليم .
“ورواندا” التي مزّقتها الحرب الأهلية في التسعينيات أستعادت مكانتها حين تبنّت قيادة سياسية منهجاً صارماً لبناء مؤسسات الدولة قبل كُل شيء ، وحتى في المنطقة العربية ، واجهت “الإمارات” تحديات أقتصادية وسياسية كبيرة في بدايات التأسيس ، لكنها أختارت أن تجعل التخطيط والاستثمار محوراً لأي حكومة ، فأنتقلت من أقتصاد محدود إلى أقتصاد متنوع ينافس عالمياً .
هذه النماذج ليست للمقارنة المجردة ، بل لتأكيد أن الأمم لا تنهض بأرتفاع أسعار النفط ولا بزيادة الإنفاق ، بل بنهج يضع التخطيط الصحيح في قلب القرار .
العراق يمتلك من الإمكانات البشرية والطبيعية ما يجعل نهضته ممكنة ، لكنه يحتاج إلى إرادة وطنية سياسية تتجاوز الحسابات الحزبية والفئوية نحو مشروع وطني طويل الأمد ، فالتنمية ليست قراراً تقنياً ، بل هي تحول في طريقة التفكير “من عقلية السلطة إلى عقلية الدولة، ومن إدارة الأزمات إلى إدارة المستقبل” .
إن الطبقة السياسية اليوم أمام أمتحان لم يعد يحتمل التأجيل ، فالمواطن لم يعد ينتظر وعوداً عابرة ، بل يبحث عن دولة تمنحه خدمات محترمة ، وتعليماً يليق بأبنائه ، ونظاماً صحياً لا ينهار أمام أزمة بسيطة ، وأقتصاداً يوفر عملاً كريماً ، هذه المطالب ليست ترفاً ، بل هي أساس العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه أي دولة ،
والحكومة المقبلة أياً كانت تشكيلتها ، لن تُحاسَب على الشعارات ، بل على قدرتها في صياغة رؤية حقيقية تكون قابلة للتطبيق ، تُوازن بين الحاجة إلى الاستقرار والحاجة إلى الإصلاح العميق ، وحتى يكون الإصلاح ممكناً لا بد من مغادرة الإدارات المرتجلة والقرارات القصيرة الأمد ، والانتقال إلى منهج تخطيطي واضح يستند إلى البيانات ، ويُعيد الاعتبار للقطاعات الإنتاجية ، ويمنح الاستثمار بيئة آمنة وجاذبة ، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب بعيداً عن “المحاصصة” التي عطّلت الدولة وأعاقت نموّها .
أخيراً وليس آخراً .. إن ما يحتاجه العراق اليوم ليس مُعجزة ، بل قرار وطني شجاع ، قرار تكون الدولة فيه أكبر من أحزابها ، والرؤية أهم من التكتيك ، والمواطن فوق كُل الحسابات ، وإذا أرادت الطبقة السياسية أن تكتب صفحة جديدة في تاريخ العراق ، فعليها أن تتعلّم من تجارب الآخرين ، وأن تعيد صياغة علاقتها بالدولة على أساس الكفاءة والواجب والمسؤولية ، فالأمم لا تبنى بالمصادفة ، بل تُبنى حين تتحول الإرادة إلى رؤية ، والرؤية إلى برنامج ، والبرنامج إلى واقع يلمسه الناس في حياتهم اليومية …!