على عينك يا تاجر!
كتب / د. طه جزاع ...
للفنانة والمطربة السورية الشابة هبة مسعود أغنية عاطفية تقول فيها : على عينك يا تاجر .. والله لبيع قليبي .. بعد العشرة الطويلة .. يطلع خاين حبيبي!. وقد استخدَمت فيها مثلاً شائعاً يقول: على عينك يا تاجر، ومعناه أن هناك من يفعل افعالاً في العلن غير مستحبة أو مرفوضة أو شاذة أو يخلف وعداً من دون أن يشعر بالخجل أو يخشى محاسبة من أحد. ولتسمح هبة الجميلة بتحوير بعض الكلمات في اغنيتها لتصبح : على عينك يا تاجر.. بعد الوعود الكثيرة .. صرنا نسكن المقابر!.
والأمر يتعلق بأزمة السكن في العراق، وبالأخص في بغداد والمدن الكبيرة التي تعاني من انفجار سكاني هائل من دون حلول جادة لهذه الأزمة المتفاقمة يوماً بعد آخر، أما التاجر فلا نقصد به التاجر البسيط المُحترم والملتزم بأخلاقيات عمله، والذي يخاف الله في السر والعلن، فلا يغش ولا يرفع الأسعار ولا يحتكر البضاعة ولا يسبب الأذى والضرر للمواطن، ولا يزيد من معاناة الفقراء بل يعينهم ويؤثرهم على نفسه ولو كان به خَصاصة، إنما المقصود أولئك الذين يُطلق عليهم تسمية " الحيتان الكبيرة " وهم الذين يعملون تحت خيمة القطاع الخاص، ويمتلكون السلطة والثروة والنفوذ، ولا تشبع بطونهم من أموال السحت الحرام، ولا يستثمرون أموالهم المكدسة إلا بضمانة حصولهم على أرباح خيالية تزيد من ثرواتهم بأقصر الطرق وأكثرها أماناً وضماناً، ولو أنهم كانوا يعملون فعلاً ضمن خيمة القطاع الوطني الخاص لما تمادوا في طغيانهم يعمهون، ولأدركوا أن أثمن ما يملكه المرء على وجه الأرض هو رضا الله والضمير والناس والوطن، وإن ما جنوه من أموال وأرباح السحت الحرام زائلة لا محال.
لقد أصبحت أزمة السكن من المعضلات الكبيرة في العراق والتي تراكمت آثارها السلبية في غياب الحلول الحقيقية، على الرغم من الوعود المتكررة التي تطلقها الحكومات المتعاقبة والتي هي في حقيقتها ليست أكثر من حقن تخدير للمواطنين الذين ضاقت بهم الأرض، فتقسمت البيوت الكبيرة إلى عُلب صغيرة لاستيعاب عوائلهم المنشطرة من الأولاد والأحفاد، واختفت الحدائق الغّناء التي كانت تعرف بها البيوت البغدادية في العديد من أحيائها الراقية وحتى الشعبية منها، وحلت محلها العشوائيات التي شيدت تجاوزاً على القوانين التي حل محلها قانون القوة والاستحواذ والبلطجة، أما من لم يرث وحدة سكنية من أسرته أيام كانت أراضي السكن والبيوت متاحة بأسعار مناسبة، فضلاً عن سلفة المصرف العقاري، فقد بقي تحت رحمة الإيجارات المرتفعة التي تبتلع القسم الأكبر من راتبه إن كان موظفاً، أو دخله الشهري إن كان كاسباً، والموظف والكاسب هما عمود الطبقة الوسطى التي انقرضت للأسف الشديد في السنوات الأخيرة، وبات مجتمعنا هجيناً بين مجتمع اشتراكي كان يتحكم به نظام مركزي، ومجتمع رأسمالي يتحكم به حالياً سوق العرض والطلب وفيه كل البضائع غالية الثمن باستثناء الأنسان، لذلك فإن المواطن الذي يبحث عن سكن مناسب يشاهد بأم عينيه المجمعات السكنية تنبت حوله هنا وهناك لكن الحصول على بيت أو شقة سكنية فيها أقرب إليه من أبعد الأحلام، والسبب لأن القطاع الخاص الذي يستثمر أمواله في المشاريع السكنية يفرض شروطاً تعجيزية على المواطن من بقايا الطبقة الوسطى، تبدأ من المقدمة ونظام الدفعات المالية ولا تنتهي عند سعر الوحدة السكنية الذي يعادل أو يزيد على سعر ما يماثلها في أرقى أحياء لندن وباريس ونيويورك ودبي وإسطنبول، مع أن المقاييس العالمية للمدن الأكثر ملائمة للعيش تعلن في كل عام أن بغداد هي من بين أسوء مدن العالم ملائمة للسكن البشري!. ولقد قدرت بعض الجهات المعنية ومنها لجنة الخدمات في مجلس النواب ان العراق يحتاج إلى خمسة ملايين وحدة سكنية لمعالجة أزمة السكن " الحالية " وهذا يعني ارتفاع الرقم بمرور الوقت مع زيادة عدد السكان وانشطار الأسرة، حتى يصبح امتلاك خمسين متراً لعائلة جديدة حلماً صعب التحقيق ولو جمع رب العائلة رواتبه ودخله الشهري لمدة ربع قرن!.
قبل سنوات كنتُ في زيارة لعاصمة عربية مزدحمة بالسكان، وكان سكني في واحد من أكبر فنادقها وارقاها وفي غرفة بخدمات مرفهة، وكل ما في الفندق يوحي بالراحة والرفاهية، ومن نافذة الغرفة كنت أشاهد الأحياء الجديدة وشوارعها الجميلة، وبعد جولة في بعض شوارعها كدت أن أكون صورة وهمية عن مستوى معيشة ورفاهية أغلب سكانها، حتى قادني ذات يوم صديق عراقي مقيم فيها وخبير بأسرارها، وأخذني في جولة إلى أحد ضواحيها القريبة ليريني الوجه الآخر من المدينة حيث يسكن الناس في المقابر، ويجلسون ويأكلون ويشربون ويسهرون وينامون ويمارسون حياتهم اليومية الطبيعية إلى جانب الأموات، وعلى عينك يا تاجر!.