من قتل صاحبة الجلالة ؟
كتب / سمير داود حنوش
هي الحكاية التي يتناولها نقاش الصحفيين والقصة التي تشغل صُنّاع الرأي العام في العراق عن الجاني من إختفاء أنواع الصحف البغدادية من المكتبات والأكشاك التي كانت متناثرة في شوارعها وساحاتها.
من سرق ذلك العطر الورقي الممزوج بالشغف الذي كان يستهوي القارئ للتنقل بين صفحات السياسة والأخبار والثقافة وحتى الرياضة؟ من هدم معبد عمره أكثر من 150 عاماً منذ أن وضع الحجر الأساس للعدد الأول من صحيفة الزوراء الرسمية في حزيران من عام 1869؟.
وعلى مر الأزمنة كانت صاحبة الجلالة (الصحافة) اليد الطولى في بلورة رأي عام يسير بإتجاه مصالح وحقوق الشعب العراقي عندما إتسع عدد الصحف في تاريخ الصحافة العراقية ليصل إلى 69 صحيفة خلال فترة الإنقلاب الدستوري العثماني في 1908 – 1914 وما يقارب 150 صحيفة ومجلة صدرت منذ عام 1918 – 1936، في حين كان عدد الصحف الصادرة في العهد الجمهوري الأول 1958 – 1963 نحو 120 صحيفة.
لكن المفارقة أن صدور قانون الصحافة والطباعة عام 1967 القاضي بتأمين الصحافة وجعلها من القطاعات الحكومية أضر بهذه الصناعة، بعد أن ألغى حرية التعبير عن الرأي ووضعها تحت مقص الرقيب الحكومي، لكن سرعان ما تم تدارك الأمر بمنح بعض الحرية في عام 1969 إلا أن ذلك القليل من الحرية سرعان ما تم تداركه في عام 1975 لتختزل الصحافة الورقية بثلاث صحف هي الثورة والجمهورية والعراق.
الغرابة أنه حتى في جميع مراحل ممارسة الصحافة لدورها كانت تمر بأزمنة من العافية والنشاط والتجدد، إلا أن صورة الصحافة المقروءة قد إنتكست بشكل كبير بعد إحتلال بغداد في نيسان 2003 عندما تحولت بداياتها إلى فوضى وإرباك جعل من صاحب محل لبيع الحلويات ينتج صحيفة، وقد يكون قرار الحاكم المدني حينها بول بريمر بإلغاء وزارة الإعلام العامل الأكثر أهمية في إشاعة الإرتباك الإعلامي وعدم وجود بدائل مقنعة لتلك المؤسسة الرصينة التي خرّجت صحفيين وإعلاميين يقودون أغلب مؤسسات الصحافة والإعلام في الخارج.
لم تصمد بعد عام الإحتلال من بين أكثر من 200 صحيفة سوى صحف الأحزاب والكتل السياسية التي تتسيّد المشهد السياسي، وحتى تلك لم تسلم من الغربلة، بعد أن إتضحت مصادر التمويل لأغلبها من الأحزاب التي تعتاش على نهب أموال الدولة لتنفق على مؤسساتها الإعلامية أو رجال أعمال وشخصيات سياسية يتبعون لتلك الأحزاب لتخرج الصحافة عن مضامينها في صناعة رأي حر، في حين ضاعت صناعة الصحافة وإرتُهن الإصدار بمافيات الإعلان لتمتد إليها يد الفساد بعد أن وقعت تلك الإعلانات تحت نفود المكاتب الإعلامية في الوزارات التابعة لأحزاب متنفذة.
إختفى التمويل مما إضطر الصحافة المكتوبة إلى الإستسلام وغلق مكاتبها وتسريح صحفييها وعمالها والرضوخ إلى سياسة التجهيل التي أرادوها للعراقيين بعد الإحتلال.
إختفت من الاكشاك وأرصفة بغداد أسماء وعناوين صحف كانت تلهم القارئ بأن يشتريها ويتأبطها بين ذراعيه ليستمتع بأخبارها وعطر ورقها وهو جالس في بيته.
أكبر خطأ وقع فيه العراقيين حين ظنوا أن الديمقراطية الأمريكية ستجلب لهم حرية أكبر في التعبير عن رأيهم وإستحداث صحافة ورقية متنوعة.
في محصلة ما يقال أننا أصبحنا في واقع ممزوج بالألم والحسرة عندما نقول أن القاهرة لم تعد تكتب وبيروت لم تعد تطبع وبغداد لم تعد تقرأ، وذلك هو الزمن الرديء الذي نعيشه لأنه من علامات الإنهيار وتخريب العقول.