عملة جديدة تحد من هيمنة الدولار الأمريكي
كتب / ناجي الغزي
في يوليو عام 1944، اجتمع 730 موفداً من 44 دولة في مؤتمر بريتون وودز، الذي استمرت أعماله 22 يوماً، بالعاصمة الأميركية واشنطن. أرسى ذلك الاجتماع على اتفاق جديد للنظام المالي العالمي، وتحدد فيها أسعار الصرف الثابتة مبني على معيار التبديل بالذهب، والذي كانت العملات فيه مربوطة بـالدولار الأمريكي، بسبب حيازة الولايات المتحدة غالبية الذهب في العالم. الذي كان بدوره قابل للتحويل إلى ذهب بسعر 35 دولار/أوقية
وبسبب حرب فيتنام اصبح ميزان المدفوعات السالب، والدين العام المتزايد والتضخم النقدي من الاحتياط الفدرالي, جعل الدولار مبالـغ في قيمته في عام 1960. مما أدى الى نزيف الاحتياط الذهبي الأمريكي بلغ أوجه بإنهيار مجمع لندن للذهب في مارس 1968.
وفي 15 أغسطس عام 1971، شهد العالم “صدمة نيكسون”، عندما فك الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب وترك العملة الأميركية للسعر الذي تستحقه. وبعد ذلك دخلت إدارة الرئيس نيكسون في مفاوضات مع حلفائها الصناعيين لإعادة تقييم أسعار الصرف إثر ذلك التطور.
ولكن تسعير النفط بالدولار ساعد على إنقاذ العملة الأميركية من الانهيار، مدفوعاً بالحاجة الاستهلاكية والاستثمارية لدول العالم، فبقي عملة احتياطية في العالم، تدفع بها الدول أثمان سلعها وأصولها والتزامات ديونها، ما أجبر البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم على الاحتفاظ بكميات كبيرة من الدولار في احتياطاتها. إلا أنّ أطرافاً اليوم تعمل على توفير بديل يجذب الدول الأخرى لبناء نظام مالي مستقل تماماً عن سيطرة الولايات المتحدة، ومتحرر من هيمنة الدولار.
مجموعة “بريكس” قوة اقتصادية واستهلاكية وديمغرافية
مجموعة دول ”بريكس” BRICS” هي حروف مختصرة باللغة اللاتينية المكونة لأسماء الدول الخمسة وهي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
وتأسست “بريكس” عام 2006 من قبل الدول الأربع الأولى باسم “بريك”، خلال قمة وزراء دول الخارجية وهم (البرازيل وروسيا والهند والصين) بمدينة نيويورك في سبتمبر 2006 على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وتربط الدول الأعضاء اتفاقيات مصرفية ونقدية لتبادل العملات وزيادة التجارة بالعملات المحلية لتقليل الاعتماد على الدولار.
حيث عقدت أول قمة بين رؤساء الدول الأربع المؤسسة في مدينة Yekaterinburg يكاتر ينبورغ بروسيا في حزيران 2009 حيث تضمنت الإعلان عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية. وانضمت دولة جنوب أفريقيا إلى المجموعة عام 2010، فأصبحت تسمى بريكس بدلاً من بريك سابقا.
وتشكل مساحة هذه الدول ربع مساحة اليابسة من الكرة الارضية، وعدد سكانها يقارب 42 % من سكان العالم، بينما أعضاءها لديهم أقل من 15 % من حقوق التصويت في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وهناك اقتراح بتوسيع مجموعة “بريكس” التي ستكون أحد النقاط الرئيسية للكتلة الاقتصادية هذا العام في ظل رئاسة جنوب إفريقيا للمجموعة.
حيث بلغت طلبات الدول المتقدمة للانضمام لعضوية “بريكس” أكثر من 12 دولة في مقدمتها إيران والسعودية اللذان طلبا رسميا الانضمام للمجموعة. إضافة الى الأرجنتين، والإمارات، ومصر, والجزائر، والبحرين، وإندونيسيا، إلى جانب دولتين من شرق إفريقيا ودولة واحدة من غرب إفريقيا. وستناقش هذه الطلبات في مؤتمرها القادم برئاسة جنوب افريقيا.
والرغبة في توسيع المجموعة قد يأتي لصالح الصين التي تسعى لتعزيز موقعها في الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومؤسسات دولية أخرى.
وحسب تقرير صحيفة “لو جورنال دو ديمانش” (Le Journal de dimanche) يشير وفقا لبيان شركة الاستشارات البريطانية Acorn Macro Consulting، تتمتع مجموعة “بريكس” بوزن اقتصادي أكبر من الدول السبع الأكثر تطورا من الناحية الصناعية في العالم “مجموعة السبع الكبار”.
أي توفر 31.5 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقابل 30.7 % لمجموعة السبع. فضلا عن ذلك تتقدم مجموعة “بريكس” على دول مجموعة السبع الكبار ليس فقط من الناحية الاقتصادية وحسب، بل من الناحية الديموغرافية والاستهلاكية، حيث يعيش 800 مليون شخص في دول مجموعة السبع مقابل 3.2 مليار في دول “بريكس” وتتخطى أهمية هذه الدول ناتجها المحلي باعتبارها أحد أهم الأسواق العالمية أيضا بمجموع سكان يتخطى 3 مليارات و200 مليون نسمة ولدى تأسيس المجموعة لفتت الصين إلى أن التنسيق بين تلك الدول كمستهلكين وليس كمنتجين فقط يبدو حتميًا ومفيدًا لها.
عملة جديدة مشتركة
أعلنت مجموعة دول “بريكس” يوم الإثنين 10/4/2023 أنها بصدد إطلاق عملة مشتركة بينها بديلة عن الدولار الأمريكي.
كما صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في شهر يناير الماضي بوجود مبادرة حول إطلاق عملة لمجموعة “بريكس” ستتم مناقشتها في قمة جنوب إفريقيا المزمعة في أغسطس القادم من هذا العام.
وفي 22 يونيو من العام الماضي، كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يجري النظر في إطلاق عملة دولية على أساس سلة عملات دول “بريكس”.
وفي نوفمبر من العام الماضي، اقترحت اللجنة الاقتصادية في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي إنشاء نظام دفع ببطاقة دفع مشتركة لدول “بريكس” (روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا، البرازيل) ودول الاتحاد الأوراسي (روسيا، كازاخستان، بيلاروس، أرمينيا، قيرغيزستان)، ويتمحور الاقتراح حول نظام قادر على توحيد أنظمة الدفع Union Pay الصيني وRuPay الهندي وElo البرازيلي وأنظمة الدفع في الاتحاد الأوراسي.
وجاء ذلك نتيجة قرار روسيا والصين باتخاذ خطوات جادة في التعامل بعملاتهم الوطنية، ومن أبرز هذه الإجراءات اتفاق شركتي “غازبروم” الروسية وشركة “سي أن بي سي” (CNPC) الصينية على تحويل مدفوعات الغاز المورد عبر “قوة سيبيريا” إلى الروبل الروسي واليوان الصيني.
وكذلك وقعت كينيا صفقتان مع السعودية والإمارات لشراء النفط بعملتها المحلية “شلن كيني” وغانا بالذهب بدل الدولار الأمريكي.
وتحاول بعض الدول ومنها روسيا الاستغناء عن الدولار الامريكي في مبيعاتها النفطية مع الدول المصدرة إليها, بسبب العقوبات التي فرضتها أمريكا على روسيا.
كما أعلنت وزارة المالية الروسية، أنها ستغير هيكل صندوق الرفاه الوطني في غضون شهر، وذلك بالاستغناء عن الدولار واستعاضة عنه بالذهب وعملات أخرى.
وهناك تساؤلات كثيرة حول صعوبة استغناء الكثير من الدول ومنها روسيا عن عملة الدولار الأمريكي, وذلك بسبب أن اغلب السلع الأولية في العالم يتم تداولها بالدولار ، وتقدر حجم التجارة العالمية بنحو 14 تريليون دولار سنويًا، اضافة ان الدولار هو أكثر عملة تعتمد عليها الدول فيما يخص الاحتياطي النقدي.؟؟
الرهان بين الممكن والمستحيل
جاءت فكرة تدشين عملة جديدة للاحتياطيات النقدية بناء على سلة العملات بوصفها وسيلة لتخطي العديد من الصعوبات التي تجعل إطلاق عملة مشتركة، مثل (اليورو) ولكن هناك من يشكك بالفكرة ويعتبرها غير ممكنة, وذلك بسبب التفاوت في مستوى الدخل وحجم الاقتصاد فضلا عن ضرورة تمتع اقتصاديات الدول بمؤشرات متقاربة في العديد من النواحي وأبرزها التضخم ومستوى الأسعار وغيرها.
ولكن التعاون بين دول “بريكس” يبدو منطقياً في المرحلة الحالية في الوقت الذي تسعى به دول أوروبا وأمريكا الشمالية إلى تعزيز تحالفاتها وتشكيل كتلة جديدة وتوقيع اتفاقيات تجارية وأمنية.
وما يعزز هذا الاعتقاد هو الترابط الكبير بين دول مجموعة “بريكس” والتصريحات الهندية بتزايد أهمية ومكانة “بريكس” في عالم ما بعد كورونا والتصريحات الروسية بضرورة تحدي الهيمنة الأمريكية والتصريحات الصينية بضرورة وقف “التحالفات العدائية”.
وما يدعمها اكثر هو ان هذه الدول أقرت استخدام عملات غير الدولار ولو بشكل جزئي ومحدود في بعض تعاملاتها التجارية وعززت تنوع احتياطاتها في السنوات الأخيرة، بما يشير لإمكانية تحقيق هدف عملة الاحتياط المشتركة.
ولكن هذا مرهون الى رغبة الصين تحديدًا في إقرار مثل تلك العملة، بوصفها الضلع الأهم والأكبر في مجموعة “بريكس”، لا سيما مع رغبة بكين في تقوية مركز اليوان كعملة احتياط دولية حول العالم، وبالتالي ما سيحسم الأمر هو رؤية بكين لما إذا كان دعم عملتها منفردة يحقق لها مصلحة أكبر ام العملة المشتركة تحقق لها مكانة دولية جديدة.