القراءةالعلمية للمشكلة العراقية: مدخل الحل
كتب / د . علي المؤمن ||
دوافع القراءة العلمية للمشكلة العراقية:
قبل الدخول إلى بوابة الحلول الصعبة لأزمات العراق المستعصية؛ لابد من تشخيص طبيعة هذه الأزمات وعمقها وامتداداتها؛ فالعلاج الحقيقي الفاعل لا يُعطى للمريض إلّا بعد اكتشاف طبيعة المرض أو الأمراض، ومراحلها ومستويات استفحالها وتجذرها في جسد المريض. وقد يكتفي الطبيب بالمسكنات أو العلاج بالعقاقير أحياناً، ولكنه قد يقرر إجراء العمليات الجراحية الخطيرة أحياناً أخرى، وصولاً إلى عمليات الاستئصال المؤلمة أحياناً ثالثة، من أجل إنقاذ حياة المريض.
ابتداءً؛ ينبغي أن نؤمن بأن من الخطأ حصر أسباب الفساد والفشل والأزمات في العراق بطبيعة نظام ما بعد العام 2003، والحكومات التي أفرزته، بدءاً بإدارة الاحتلال بقيادة غارنر، وانتهاءً بحكومة السيد محمد شياع السوداني. ومن الخطأ أيضاً الاعتقاد بأن العلمانيين إذا حكموا العراق وتنحى الإسلاميون عن الحكم، أو أمسك التكنوقراط بالوزارات وابتعد السياسيون والحزبيون، أو تخلى الشيعة عن المشاركة في الحكم وعاد السنة للامساك به دون شريك، أو إذا ظهر قائد قوي؛ فإن أزمات العراق ستنتهي، كلا بالتأكيد، لأن أزمات العراق ليست طارئة أو مفتعلة، أو ناتجة عن احتلال وحروب وسوء إدارة؛ إنما هي أزمات متوارثة متراكمة مزمنة، لها علاقة بتاريخ بعيد وماض قريب وحاضر قائم، ويستحيل التخلص منها بالقوة القاهرة أو المعالجات الترقيعية أو المصالحات السطحية وصفقات الترضية بين الفرقاء، أو بالشعارات الرنانة والمهرجانات الخطابية التي تصرخ بالوطن والوطنية.
المعضلة الأساس التي يعاني منها العراق، هي معضلة الوعي العلمي الدقيق بما كان وما هو كائن وماينبغي أن يكون، وبالتالي؛ وجود خلل عميق في فهم نوعية العراق الجديد الذي يجب أن يقوم، على قاعدة الاتفاق الواقعي الموضوعي بين المكونات القومية والطائفية، وأحزابها وتياراتها ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والدينية. وكان ينبغي الاتفاق على هذا الأساس منذ مداولات الجمعية الوطنية وبواكير تداول إنشاء الدستور، وجزء منه الاتفاق على القيم الحاكمة على الدستور وقبلياته، أي القواعد الأساسية التي تقف عليها الدولة ومنظومتها السياسية والاجتماعية، لأن الخلل في تثبيت القبليات، ثم تقنينها في الدستور وفي منظومة الدولة؛ جعل كل قومية وطائفة وتيار وجماعة، بل وكل وحدة إدارية، تحس بالغبن، وبعدم حصولها على استحقاقاتها في السلطة والثروة ؛ الأمر الذي جعل حالة تفجير الأوضاع في أية منطقة في العراق من أسهل الأمور. وهكذا ظلت الموروثات التاريخية الخلافية تتفجر بكل أشكالها واتجاهاتها، وأصبح بعض الفرقاء يعيش هاجس العودة الثقيلة الى الماضي، والآخر يعيش هاجس العبور السريع الى المستقبل.
وفضلاً عن المعالجات السطحية والترقيعية لكثير من الأزمات الكبيرة التي تفجرت أو تكونت بعد العام 2003 ؛ فإن أزمات وإشكاليات أُخر تم تجاوزها اعتباطاً، خوفاً من إثارتها أحياناً، أو عدم الالتفات الى خطورتها أحياناً أخرى، ولهذا بقي وسيبقى كل شيء على ما هو عليه، طالما بقيت الإشكاليات غير مفككة موضوعياً وعلمياً، وبقيت الأزمات غير مدروسة دراسة اركولوجية معمقة، تهدف الى معرفة بنيتها، من أجل اقتلاع جذورها.
ولعل من البساطة أن يحصر بعضهم – كما ذكرنا – أسباب الأزمات وعدم الاستقرار في العراق، منذ العام 2003 وحتى الآن، الى آثار الاحتلال وسقوط سلطة البعث، أو الأداء الحكومي ومناسيب الفساد ونقص الخدمات، أو الإرهاب؛ فهذه العوامل بعضها مظاهر، وليست كلها أسباب.
جذور المشكلة العراقية ومظاهرها:
الأسباب الحقيقية المتعاضدة لأزمات العراق ومشاكله المستعصية؛ تعود الى ثلاثة مجموعات من الأسباب:
1-الأسباب البنيوية:
أ-التركيبة الجغرافية الاعتباطية الخاطئة للعراق، على أساس معاهدة سايكس ـــ بيكو بين بريطانيا وفرنسا، وفي مقدمة أخطاء التركيبة أنها قامت على أساس توحيد ثلاث ولايات عثمانية، بكل تفاصيلها ومكوناتها ومشاكلها، هي بغداد والموصل والبصرة.
ب-إرث المشروع البريطاني، المتمثل بتأسيس الدولة العراقية الجديدة بعد العام 1921، بوصفها دولةً ملكية، تحكمها أسرة سنية غير عراقية، مرتبطة بالمشروع البريطاني في المنطقة، وكذلك حكومات مرتهنة للمشروع البريطاني، ومنظومة ايديولوجية طائفية عنصرية، تقوم على أساس إمساك النخبة التي تنتمي الى 16% من سكان العراق (السنة العرب) بسلطات الدولة وعقيدتها وثقافتها ورمزياتها.
ت-الايديولوجية الطائفية العنصرية للدولة العراقية، وهي ايديولوجيا مترسخة موروثة في مفاصلها، وفي نظامها الطائفي الحاكم منذ مئات السنين، والذي أورثه العثمانيون الى دولة العهد الملكي، ومنها الى الدولة الجمهورية، وصولاً الى دولة البعث، وقد بقيت راسخة في أغلب مفاصل الدولة العراقية، حتى بعد سقوط دولة البعث.ث-فقدان الدولة العراقية للناظم الجامع (المذهبي القومي) الذي يوحد هوية العراق الوطنية المتمثلة
بالهوية المذهبية القومية للأغلبية السكانية (شيعة/ عرب) ؛ فشعارات الوطن الواحد والدين الواحد لايكفيان ناظماً، لأن ناظم (الوطنية) لوحده، هو ناظم فضفاض ينظر اليه كل مكون بطريقته وتعريفه في داخله وليس في تصريحاته، وهذا الناظم هو عبارة عن الهوية المذهبية القومية للعراق، أسوة بكل دول العالم المتحضرة.
وبكلمة أخرى؛ فإنّ أزمات العراق المعاصرة لصيقة بتكوينه بعد معاهدة سايكس ـــ بيكو، التي أورثت العراق كل موبقات السلطنة العثمانية، ثم قيام الدولة العراقية في العام 1921 وما ترشح عنها من مركب سلطة طائفية عنصرية، تحمل الإرث العثماني في مضمونها، ولون الاحتلال والاستعمار في شكلها، ويحكمها ملوك مستوردون من الخارج، وبإفرازات ما عرف بأفكار الثورة العربية، ثم ظهور أفكار الجماعات العنصرية؛ وأبرزها حزب البعث.
2- موروث نظام البعث:
موروث نظام البعث؛ موروث تدميري للعراق، على كل المستويات: السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعيشية والنفسية، وصولاً الى البنى التحتية المدمّرة التي ورثها العراق الجديد بعد العام 2003. وقد كانت أزمات العراق قد تبلورت بأبشع صورها؛ بتأسيس نظام حزب البعث العراقي في العام 1968، واستدعائه لكل مفاسد الموروث الطائفي العنصري؛ فنتج عن كل ذلك ثقافة مجتمعية مأزومة، وثقافة سلطوية قمعية، ونظم سياسية وقانونية مولِّدة للأزمات، ومراكمة لها، ومفككة لبنية المجتمع، ومدمرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب العراقي.
وكان نظام البعث بارعاً في قمع أعراض هذه الثقافات المأزومة والمناخات النفسية المعقدة التي أنتجها الموروث التاريخي العراقي وأنتجها فكره وممارساته، ويغطي على بؤر النيران والأزمات، بكل أنواع القسوة والطغيان والجبروت ؛ فكان يقضي على أعراضها بعلاجات تفاقم الأمراض وتجذّرها، لأنه كان يعتاش على هذه الأمراض ويتغذى بها، بل هي سبب استمراره في السلطة. وبذلك بقيت تلك الثقافات والأمراض المزمنة والصراعات المتجذرة ناراً تحت الرماد؛ حتى سقطت سلطة القمع في العام 2003؛ لتنطلق هذه الثقافات والصراعات بقوة إلى العلن.
3- إفرازات نظام العراق الجديد:
أ-تفاعل الأزمات الموروثة ؛ فبعد انهيار دولة البعث في العام 2003 ؛ بفعل مشروع الاحتلال الذي كان معنياً بمصالحه فقط، وليس معنياً بحل أزمات العراق ؛ فإن تلك الثقافات والأزمات النفسية وتبعات الموروثات التاريخية والبيئة النفسية الحاضنة لكل أنواع الأزمات ؛ تحررت فجاة، وانطلقت بقوة تدميرية هائلة؛ لتملأ الواقع العراقي بالتناقضات والتعارضات والصراعات ، حتى أصبح الشغل الشاغل للحكومات المتوالية؛ حل التناقضات بين الفرقاء السياسيين، وتفكيك العقد بين مكونات الشعب العراقي، ومقاربة إشكاليات النظام السياسي، وتنظيم صلاحيات الحكومة المركزية وحكومات الإقليم والمحافظات، فضلاً عن المهمة اليومية الروتينية المتمثلة بمكافحة الإرهاب وأسبابه المتراكمة.
وجميعها مشاغل متشعبة جدلية؛ تجد جذورها بالكامل في ممارسات الأنظمة العراقية السابقة وأعرافها وأفكارها وسلوكياتها، وترافقها أزمات متفجرة أخرى تتعلق بالخدمات والبنية التحتية، وهي أزمات موروثة أيضاً؛ لأن نظام البعث ظل طيلة 35 عاماً يقوم بحلول ترقيعية لهذه الأزمات؛ للحيلولة دون ظهورها إلى العلن.
ب-مشروع الاحتلال الأمريكي، واستمراره في الفاعلية، على مستوى النفوذ السياسي الكبير، والتواجد العسكري، والعمل الأمني، والنشاط الثقافي والإعلامي والاجتماعي التخريبي.
ت-التدخل السافر للدول الاخرى في الشأن الداخلي العراقي، عبر الإعلام والنفوذ السياسي والأموال ودعم الجماعات الإرهابية، و بما يمس أمن العراق واستقراره.
ث-النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي التوازني المنفلت، بعد عقود من الدكتاتورية والانغلاق التام والمركزية الشديدة وحكم الحزب الواحد والطائفة الواحدة والرجل الواحد والثقافة الشمولية الواحدة، وانعكاسات هذه المفارقة سياسياً وقانونياً واجتماعياً ونفسياً على الدولة والمجتمع والفرد.
ج-كثرة الأحزاب الشيعية المتساوية في القوة والشعبية، وضعف الخبرة التراكمية للشيعة في الحكم، وعدم امتلاك أحزابهم السياسية والمؤسسة الدينية والمؤسسات الاجتماعية (عشائر وغيرها) مشروعاً متكاملاً متفق عليه لإعادة بناء العراق، وتأسيس الدولة العراقية الجديدة.
ح-السلوك السياسي لأحزاب المكونين السني والكردي، والذي يعيق غالباً عملية الاستقرار والنماء.
خ-ظواهر الفساد الإداري والمالي والفشل التنموي، في أغلب مؤسسات الدولة، بسبب مساربها التي تنتجها التركيبة المحاصصاتية للمسؤوليات في الدولة، وسياقات الترضية والصفقات السياسية، وضعف المركزية والرقابة.
د-الضرب المستدام للاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي، عبر التفجيرات والاغتيالات والتخريب والعمل المسلح للجماعات الإرهابية التكفيرية والطائفية وبقايا النظام البعثي.