ما أصغركم.. وما أكبر جنين!
كتب / خالد شحام
طيلة اليومين الماضيين من تقويم السعدان لم أتمكن يا جنين من الشعور بأي نوع من مظاهر الحياة، حتى أنني ترددت كثيرا قبل الكتابة مثل طير يرتعش من البرد، لم أتمكن من الاستمتاع بطعام أو شراب او حتى التحديق في الظلام على سرير النوم، لم أعد أفكر إلا بك وبمنظر هؤلاء النساء والأطفال وبعض الذين يجلسون على مقعد متحرك وهم يلوذون بالهرب من بطش الجنود الأشباح ، إلى متى سيظلون يطاردوننا؟ إلى متى ستبقى رحلة الاغتراب من المخيم الأول إلى الثاني إلى المائة؟ وإلى متى أيها العالم ستبقى متفرجا على اوشفيتز جنين واوشفيتز غزة بنسخته الاسرائيلية هذه المرة؟ لم أعد أفكر يا جنين بشيء سوى بعدد الذين يحوطون حياتك وكرامتك التي دخلت موسوعة الشرف والبطولة العالمية لكي يقتلوها ويسحلوها بمدرعة أو حاملة جنود حتى يثمل صنم اسرائيل بالنصر المؤزر بفتح غطاء زجاجة المخيم .
لم أعد أفكر يا جنين إلا بقدرتك على تعرية المشهد وكشف الثعابين التي تقيم في جحورنا بصمت وتطل برأسها كلما حاولت النهوض أو المقاومة أو حتى الموت بكرامة ، كم عددهم بالضبط ؟ ألا يكفينا الغطاء الأمريكي والأوروبي للجريمة ؟ ألا يكفينا الذين يضحكون على البندقية باللسان العربي وحساء المساعدات ومدينة الأراجيح ؟ ألا يكفينا أهل سدوم الجديدة الذين جابوا دمائنا للواد وزرعوا في جسدك الأوتاد ؟ لم أعد أفكر يا جنين إلا بك وبحفنة هؤلاء الأبطال الصامدين رغما عن جبروت الجبناء ومسننات الموت ، هل من المعقول أن قتل حفنة من الشباب يتطلب مائتين من المدرعات وألفا من قوات النخبة والمستعربين وصبيان الشاباك وأغوز وناحال وعشرات الدرونز وكل هذه البلدوزرات الأمريكية المفترسة ؟ هل من المعقول أن كيلومتر مربع واحد يتطلب كل هذه الحشرات ؟ ما أصغركم ! وما أكبر جنين !
ما الذي يحدث في هذا العالم بالضبط ؟ أليس هنالك من خجل ولا ضمير ولا مروءة ؟ أين أضحوكة هيئة الأمم وتمثال الحرية وعدالة البيت الأبيض المصنوعة من الجبص ؟ أين حج البيت ودليل الهاتف الأوروبي حول حقوق الإنسان ؟ أين المصلين والعابدين وبناة المعابد والمساجد ؟ أليست جنين كعبة الأمة الان في هذه اللحظة ؟ أليست هي المسجد الأقدس والرقعة الأكثر طهارة من كل أرضكم إن كنتم مؤمنين ؟
ad
يمكننا جميعا ان نستمر في المشاهدة والفرجة إلى ما لا نهاية الزمان ، يمكننا جميعا أن نستمر في دورة الحياة بلا أي حرج او خجل ممن يرحلون بصمت او بضجيج او ببضع طلقات من مدرعة أو طائرة أو اية تقنيات جديدة متاحة بين يدي جنود بني اسرائيل ، عذرا منك فلسطين ، عذرا منك أيها الشعب الفلسطيني ، عذرا منكم يا أهل جنين فنحن نعايش اليوم القطيعة الكبرى معكم ومع أنفسنا وحتى مع الله ولم يعد يهمنا عدد الشهداء أو رحلة التشرد الطازجة أو عدد الأيتام والأرامل .
بالأمس وأثناء نقل مجريات الدم الفلسطيني بكى كثير من المراسلين لهول المشاهد التي وقعت أعينهم عليها فيما رئيس الدم الفلسطيني يمارس فيلم الرسالة لهداية زعيم الطائفة وينادي حسب لوائح التعليمات بتحرك عربي ودولي وفيما يقول جند العدوان بأن هذه السلطة هي الحل الذي لا يفرط به ، فلتضحك علينا أكثر وليضحك عليك التاريخ ألف مرة ولتسقط أكذوبة التحرك العربي والدولي .
ألسنا أيها السادة بصدد نفس الصورة القديمة المأخوذة من ألبوم الذكريات الأولى للقتل والذبح لعصابة الهاجانا والأراغون الملتقطة مع الأجساد المسجاة في دير ياسين و قبية والطنطورة والنيران ذاتها تتصاعد من المنازل والقرى الفلسطينية ؟ ألسنا أيها السادة أمام حصار كل الحصارات ؟ هل تبقى من شيء لم يحاصروه أو يدنسوه في فلسطين الأطهر ؟ ألم يحاصروا الأقصى وكنيسة المهد ؟ ألم يحاصروا مسرى الانبياء وقبور الصالحين ، ألم يحاصروا الحياة ويخنقوا سبلها في كل مكان دخلوه ؟ ألسنا أيها العالم نعاني منذ مائة عام وأكثر ؟ ماذا تريدون من الفلسطيني بعد ؟ ما الذي يدور في جوف نبؤاتكم الملعونة ؟ هل الى هذه الدرجة يخيفكم أبناء هذا الشعب ؟ أليس هذا المشهد الدموي هو الذي يريده هؤلاء لكم جميعا ولكل شيء حي في هذه الأرض ؟ على كل فليلهو العالم ويعبث ويضحك مع بني اسرائيل عسى أن يبتليه الله بهم ليذيقهم بعضا مما عملوا .
في عام 2002 عندما اقتحم الجنود الأشباح مخيم جنين تمكنت المقاومة الفلسطينية من قتل ثلاثة وعشرين من قوات النخبة مقابل خمسين من شهداء المخيم ، كانت ذريعة الاقتحام عملية بطولية قتلت ثلاثين مستوطنا من المعتدين ، كانت المعادلة رابحة واتزان المعركة لم ينهزم يوما ، اليوم يحاول جيش الجبناء استعادة نفس الفعلة مع تغيرات تقنية أمريكية وإدخال معدات قتالية سرية مؤلفة من أحلاف وصفقات وخيانات عربية لم تكن متاحة من قبل سمحت بتوضيب العرب خلف أول مدرعة اقتحمت جنين ومكنت من استخدامهم كدبوس ضغط على المقاومة ، المدرعة المذكورة تم تزوديها بقرنين ناطحين أحدهما سمين والآخر نحيل بهدف رفع فحولتها ومنحها الادرينالين و الإثارة الكافية للاستعراض بسحق الشباب الفلسطيني كدرس لكل العرب ، لكن الشباب الفلسطيني هو قلب المعادلة النووية المستعرة أبدا و كسر كلا القرنين عند أول منعطف ليؤكد بأن الحقائق لم تتبدل وكفتا الميزان لا تزالان على نفس العهد حتى لو نقل الإعلام صور الانتصار الكاذب المهزوز ، ادخل يا نتانياهو ولا تخف وأخرج يدك من جيبك تخرج مقطرة بالدم الفلسطيني ولَوِّح بها على كل عبيدك الظاهرين والباطنين وسلم على رئيس دمائنا سلاما حارا ، أدخل ولا تخف وأزح يدك عن عينيك لترى كوابيس نومك في جنين ، انتظر الرد اليوم أو غدا وأمسك عليك قلبك إن استطعت إليه سبيلا.
ومع تبعات هذا المساء سأعقد معك اتفاقا يا جنين ولو في الخيال… حتى لو في قصاصة قلب أو قطعة صغيرة من أغصان الزمن الباسم الذي لم يذوي أبدا أو بقية الشوق في الأصابع التي كانت تمسك النار وارتعشت حين اشتعل الحنين الذي أنشدته فيروز لك، لا تستسلمي ولا تخافي عددا، لقد ارتقيت كأسطورة تفوق كل أساطيرهم المدلسة وصنعت لنا قنديلا في ذروة الظلام ، اثبتي ورابطي زلفا من الليل وطرفي النهار، إن الحسنات يذهبن الاسرائيليات ، وإن في ذلك ذكرى للذاكرين!.