عراق يتحكم به الغرباء..!
كتب / عباس عبود سالم
في سنة من السنوات.. تلقت سفارة العراق في احدى الدول الخليجية برقية تهنئة بالعيد الوطني العراقي في تاريخ غريب على كادر السفارة هو يوم 3 تشرين الأول من تلك السنة، وقد اثارت الرسالة شيء من الاستغراب واعتقد المسؤولون عن السفارة ان هناك خطأ مطبعيا، ولكنهم تأكدوا من دقة التاريخ لدى جهة الارسال فحولوا الامر الى مقر وزارة الخارجية العراقية في بغداد للبحث في الامر، وقد حسم العارفون بالتاريخ الجدل باستدلالهم على ما حدث في مثل هذا اليوم عام 1932 ؟ دون الاستعانة بخدمات غوغل الذي لم يكن قد اكتسب شعبيته التي يتمتع بها اليوم.
وكانت المناسبة هي (دخول العراق الى عصبة الأمم)، وبالفعل هذا ما عرفوه لاحقا من خارجية هذه الدولة التي كانت ترغب بمجاملة العراق، واختارت حدث اثار دهشة الوسط الدبلوماسي العراقي فدخول العراق الى عصبة الأمم بنظر تلك الدولة الشقيقة مناسبة تصلح ان يتقبل فيها العراق التهنئة وسط فوضى الأيام والمناسبات التي تتغير دون الاتفاق على ان يكون أي منها عيدا وطنيا لدولة يفترض ان عمرها اليوم يتجاوز الخمسة الاف عام…
برقية التهنئة بدخولنا عصبة الأمم حصلت قبل الاتفاق على اعتبار الثالث من تشرين الأول عيدا وطنيا للعراق وهي المناسبة التي تحتفل بها الحكومة وسط استغراب الشعب، اذ ان الأعياد الوطنية للدول عادة ترتبط بحدث تتناقله الأجيال او يوم يتمتع بقاعدة شعبية واسعة، ويكون العيد الوطني مناسبة تكرس لها كل إمكانيات الدولة ويتم فيها شحذ همم الناس ورفع معنويات الشعب ومضاعفة حجم الارتباط بين المواطن والدولة.
فالعيد الوطني يجسد انجاز يذكر الامة برجالها وقدراتها، فبماذا تذكرنا مناسبة دخول العراق لعصبة الأمم من ناحية طبيعة الجهد وهوية الرجال الذين نجحوا في تحقيقه، والحق ان واقعنا السياسي مشوش التركيز يفتقر للاستقرار والاستدامة، فالجمهوري و الملكي في دولتنا كلاهما يحارب الاخر لعقود والاثنان لا يثقان بمن جاء بعدهما.. لكن الجميع يطرب على الارادة الخارجية سواء جاءت من بيرسي كوكس او بول بريمر او رومانسكي او بلاسخارت او من شذى حسون..
وقد تكرمت علينا الحكومة العراقية بعطلة رسمية تنعم بها الموظفون دون ان يجهد أي منا نفسه في البحث عن الأهمية التاريخية لمناسبة دخول العراق الى منظمة ولدت ميتة وانتهت الى متاحف الانتيكات السياسية.. وهذه العصبة ليست الا اطار شكلي للتنظيم الدولي تشبه الاطار الشكلي لاستقلال العراق بعد الترتيبات الماراثونية التي أعقبت ثورة العشرين.
فقد قام نوري باشا السعيد مع المندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس بجهود توجت بتوقيع معاهدة 1922 التي اعترفت بموجبها بريطانيا بدولة العراق مع بقاء الانتداب، وهي المعاهدة التي نفذ فيها كوكس مشروعه لتأسيس الدولة العراقية قبل ان يتوارى عن الأنظار ثم يواصل نوري السعيد طريقه بتوقيع معاهدة 1930 التي سرت لمدة 25 سنة وأنهت الانتداب البريطاني على العراق.
وبعد عقدين ونصف حاولت حكومة صالح جبر تجديدها بعد انتهاء صلاحيتها القانونية في معاهدة بورتشموث منتصف الخمسينات من القرن الماضي ببنود كانت متقدمة على المعاهدة السابقة في مسائل السيادة والتنمية الوطنية، ولكن صالح جبر القادم من الجنوب جوبه بتحريض كبير من الاعلام المصري وبرفض كبير من الشارع البغدادي الذي يطرب على الترك والفرس والاذريين والارمن ولا يتفاعل مع سكان الجنوب وان كانوا عربا من اصلاب نقية..
وقف البغداديون بمختلف توجهاتهم الشيوعية والقومية والبعثية ضد تجديد معاهدة 1930 وتناغم الجميع مع ما يصدر من إذاعة القاهرة وبرنامج صوت العرب وهتفوا بلسان واحد بشعار (نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانها)
لكن من يصفونه ب(القندرة) هو مهندس دخول العراق الى عصبة الأمم! وهو من رسم ببراعة خطوط العلاقة بين العراق وبريطانيا! و (القندرة) الذي ادخل العراق عصبة الأمم سحل القوم جثته في شوارع بغداد في حفلة موت قبيحة!! وهو الذي يحتفل أبناء القوم اليوم بموضوع انجزه قبل تسع عقود!! والاغرب ان العراق يحيي هذه المناسبة او العيد الوطني واقصد دخولنا المنظمة الميتة عصبة الأمم بفعاليات ميتة في دولة تحتاج الى قاموس أكسفورد محدث لمعرفة ابجدياتها وخرائط تفكير ساستها وقادتها الذين استداروا زاوية 180 درجة من الإسلام السياسي باتجاه المدنية بنسختها الهجينة الزائفة، التي لايعرفون عنها الا تمكين المرأة التي تعني عندهم تحجيم سلطة الرجل و البراغماتية التي تعني عندهم محاكاة النفاق وأهله.
وواقعا ان الجميع اليوم يجسدون مبدا غريب لكنه حقيقي وهو: (ان الشرعية والقوة للحكومة وللمعارضة تأت من خارج الحدود)، وما احتفالنا بدخولنا عصبة الأمم الا تأكيد لهذا المبدأ الذي جسدته فعاليات المجتمع اليوم الذي اخذ يستورد كل شيء من الخارج! ومن اهم البضائع الفاسدة التي تنتشر اليوم هي الأفكار والسلوكيات الهجينة…. والمهرجانات الفارغة الغريبة؟
فمذ سنوات ومجتمعنا يتسابق شكلا ومضمونا على تكسير القيود ومغادرة التقاليد والموروثات
والبحث عن نمط حياة مجوف هجين!! ولاشك ان الانتقال نحو المدنية امر جيد، اذا اوجدنا له أسس تقوم على التنوير وفق منهج عقلاني، فعندما سألوا عمانويل كانت عن التنوير قال ” إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن الرشد” لكن للأسف حركتنا المدينة اليوم تقودها الشخصيات الهجينة الفارغة المنفوخة والمنتفخة وانصاف المطربات واشباه الفنانات وعشرات السليكونيات وصاحبات التوصيفات الفيسبوكية الفاشينستات والبلوكرات وغيرها.
مدنيتنا اليوم يباركها ويحركها سفراء دول كنا نعتبرها استعمارية، لكنهم اليوم أي السفراء ينفخون في البطون الخاوية ويلونون الهياكل المجوفة وينالون الترحيب من أصحاب المال والدلال في مهرجانات وفعاليات ومنظمات هجينة غير مفهومة الدوافع والمخرجات.
مدنيتنا اليوم لاعلاقة لها بعقلانية ابن رشد او بمنهج الفارابي وبن سينا الذين نهضت أوروبا الغربية عندما استعارت عقولهم، ففي واقع الحال هي مدنية زائفة صنعتها وسائل التواصل الاجتماعي و جسدتها ستوريات ومنشورات امعات يجيدون الهزل والتحشيش وتسويق القبح والتباهي بالرذائل.
من الغريب العجيب ان يتجسد عيدنا الوطني بمهرجان يحمل عنوان العراقي والدولي تقوده شخصية هيجنة نصف مطربة ونصف عراقية، وربع فنانة جمعت اصدقائها ومعارفها من الذين يأتون من بلدانهم لالقاط المقسوم من المال والصور، ثم يخرجون بمباركة الجهات الراعية التي جنت مواردها المالية بطرق يراد تبييضها بمهرجانات غريبة، فالثقافة والفن العراقي اسمى ان يتحول الى تخادم وبيع وشراء.
عظيم ان تفتح بغداد ذراعيها للجميع، وجميل ان ينتعش الفن ويزدهر الذوق وترتقي الاناقة، لكن من القبيح ان نتقدم بعرض أجساد (المقطاطات البشرية) من اللاوتي لايحترفن الا البحث عن الأرقام السرية لخزائن المال، ومثل هذا التهجين الثقافي ان استمر دون إجراءات موازية لدعم اهل الفن والثقافة والمعرفة ولإنقاذ الوطن بثقافته وفنونه، ستتحول بغداد من حاضرة للعلم والثقافة الى شيء آخر، وسيكون مصير مدينتنا العظيمة كمصير مدن عربية وعالمية أخرى انتهجت هذا الطريق بدعوى الجذب السياحي او تحسين الصورة او جلب العملة الصعبة… وانتهت الى مراكز للفجور والخمر والميسر…
وكل عيد وطني و روح عصبة الأمم بألف رحمة..