المفخخات المتحورة في العراق وعواصم الأجل السريع!
كتب / خالد شــحام
حتى اليوم مضت على حادثة حريق قاعة الزفاف في الحمدانية العراقية سبعة ايام ، وهي في العادة مدة أكثر من كافية لكي تبدأ الذاكرة العربية بمحو وتلاشي مفعولها والاستعداد لواحدة جديدة مثل كل المرات خاصة بوجود (لجنة تحقيق ) وخاصة أنها توصلت إلى النتائج بسرعة وحسمت الأمر وكشفت بسرعة المجرم وعدو الشعب العراقي ، و خاصة أننا (انتهينا) للتو من ضحايا زلزال المغرب و سيول ليبيا وحالات القتل والحريق في مصر ونستعد لسماع دورة جديدة من الكوارث والموت وأعداد الضحايا العرب ، على الرغم من مرور هذه المدة إلا أنني شخصيا لم استطع اختيار موضوع آخر للكتابة لأن صورة الثكالى والمنكوبات وخرائب الحريق لا تزال تشوش بصري فالوجع كبير بسعة خارطة العراق المنكوب وقارة الخزي بأكملها.
لا شيء يحكي حال الشعوب العربية المنكوبة إلا اللون الأسود الذي يكتسي ثلة النساء العراقيات المفجوعات بفقدان أقاربهن وأحبائهن في حريق قاعة الهيثم للاحتفالات ، الأسود ذاته الذي يظلل حطام قاعة الزفاف التي انقلبت من الأبيض إلى الأسود والذي ذاته يظلل حياة العراقيين منذ وطأت أقدام الهمجية الأمريكية هذه البلاد المقدسة ، الأسود ذاته الذي اورثته ( بلاك ووتر ) للمواطن العراقي والمدينة العراقية وسَلَّمت رايَته إلى وكلائها الناطقين بالعربية ، ترى ما هو الأكثر حسرة ونكبة في هذا العالم من أن تموت متفحما في قاعة مخصصة للفرح والسعادة ؟ ما هو الأكثر تعاسة والأشد ألما من أن تتحول حياة العراقيين إلى قاعة مأتم دائم وحسرات مقيمة لا تفارق ؟
لم تغب عن مخيلتي صور النساء العراقيات في مناسبات عديدة وهن يسرن في شوارع الموصل والمدن العراقية يبكين بفزع وحرقة وهذيان من فادحة الفقدان ، لم ترحل من ذاكرتنا المتخمة بالألم لطخات الدم وفتات اللحم المتناثر من المفخخات والتفجيرات التي شكلت خارطة الدم العراقي المتمدد من المركز نحو الشمال والجنوب ، ثم لم ترحل من ذاكرتنا الاحتياطية فواجع الحوادث ( العادية ) أو المفخخات الجديدة المتحورة عن المفخخات الأصيلة التي يذهب فيها دزينة أو إثنتين أو ثلاث أو عشر من المواطنين العراقيين الأبرياء نتيجة غرق العبارة أو حريق في مستشفى ابن الخطيب ومستشفى الحسين التعليمي في الناصرية وحريق مطار بغداد ثم الاحتراق حتى التفحم أو تسمم الأغذية و تلوث الهواء والمياه وحكايا لا تنتهي ولا تتوقف من التسمم الإشعاعي إلى الامتهان المعيشي الذي صنعه المحتل الأمريكي ومخلفاته داخل البلاد .
في بعض الأحيان وفي البلاد المتبلة بالعصابات والفساد والخراب والموشحة بالسواد كما هو حال عواصم الرماد تنقلب المآسي إلى سخرية وأفلام كوميدية يغشاها أيضا اللون الأسود المفضل لدى وكلاء (بلاك ووتر) أصحاب العلامة المسجلة في الدم العراقي وفي هذه تكتمل الفاجعة (بتحقيق ) ( نزيه ) يحول الضحايا إلى جثث سوداء مثبتة بخيطان ويتم تحريكها وملاعبتها على مسرح الماريونيت امام الجماهير المصابة بالذهول وفقدان الوعي والتي لم تعد ترى سوى السواد ، فعقب الحريق تم تشكيل لجنة تحقيق مثل سائر الحوادث الأخرى وأوعز رئيس الحكومة محمد السوداني بإسقاط أشد العقوبات على المذنبين وخرجت علينا لجنة التحقيق بإكتشافات مثيرة ومهمة وسرية للغاية وإليكم التفاصيل كما نشرتها المواقع الإخبارية على لسان مخلفات الاحتلال الأمريكي :
( قالت وزارة الداخلية العراقية إن سبب حريق “عرس الحمدانية” هو مصدر ناري لامس مواد سريعة الاشتعال في قاعة الاحتفال ، وقال رئيس اللجنة اللواء سعد فالح كسار الدليمي في مؤتمر صحفي إن قاعة الأعراس تتسع لـ500 شخص فقط وجدرانها مسقوفة بمادة الـ(السندويج بنل) مع مواد قابلة للاشتعال مزينة بالقش البلاستيكي سريع الاشتعال، وكذلك واجهة القاعة مغطاة بمادة سريعة الاشتعال” ، وأضاف أن “اللجنة لاحظت غرفة تحتوي كميات كبيرة من القماش تستخدم لتزيين القاعة سريعة الاشتعال إضافة إلى كميات كبيرة من المواد الكحولية على الطاولات ، وعدم وجود أبواب للطوارئ، كما تبين وجود أربعة أجهزة شعلات نارية، هي السبب الرئيسي لوقوع الحادث حيث ارتفعت النيران منها الى أربعة أمتار نحو سقف القاعة لتتسبب باندلاع الحريق” ، وأضاف أن “سبب الحريق حصول مصدر ناري لامس مواد سريعة الاشتعال” ، لافتا إلى أن صاحب القاعة يتحمل كامل المسؤولية ” ، ومن بين 14 شخصاً جرى توقيفهم في سياق التحقيق، ثبت أن أربعة منهم، من بينهم مالك القاعة، “هم المسؤولون عن عملية نصب الآلات التي تستخدم في عملية إشعال الألعاب النارية”، وفق الداخلية )
كما تلاحظون في النص الرسمي فعبارة ( سريعة الاشتعال ) هي المحور الرئيسي في تصدير الجريمة ونقلها إلى غير موضعها بالضحك والتهليس على عقول الشعب العراقي في بلد تحول بكامله إلى (سريع الاشتعال ) مع دستور شديد الاشتعال وطوائف وعصابات كلها تتميز بسرعة الاشتعال ، لقد نسي السيد كَسّار الدليمي بأنه هو ذاته قابل للإشتعال وبأن بيوت العراقيين عن بكرة أبيها محضرة وجاهزة للإشتعال والاكتساء باللون الأسود خاصة في عصر السواد الذي يغشى العراق والعصابات التي تتحكم بكل شيء.
عادة عندما تقع الحوادث ويسقط الضحايا تبرز هذه الفواجع لتتحول فورا الى أدوات محاكمة وأدوات قياس حاسمة ، أداوت قياس ومراجعة وحكم على هذه الحكومات وشخوصها وأبطالها وبرامجها وانجازاتها طيلة السنوات المسكوت عنها ولمحاكمة كل الشبكة الخلفية ، في حالة العراق وفي حادثة الحمدانية تحول اللون الأسود بسرعة الى محكمة وهيئة محلفين وقضاة ومدع عام لمساءلة الطاقم الحكومي والمتزعمين للمشهد السري الذي لم يغادره السواد ايضا ولو كانت هنالك مرجعيات حقيقية لتم تقديم كل رؤساء العصابات والطوائف ودكاكين الدين إلى المحاكمة فورا وبمعيتهم الأساسي المحتل الأمريكي الذي جلب كل هذه الشوائب.
إذا كان أحدكم يظن بأن الفورم العميق في العراق أو ليبيا أو غيرهما اهتز له جفن بسبب عدد الضحايا فهو غير مدرك للنمط ، نحن الان نعايش الشوط التابع لمرحلة الفوضى والذي عنوانه هو الموت بسرعة وكثرة ومصحوب فيه عملية واحدة وغاية اساسية اسمها قتل الأمل ، نعم أنهم يستهدفون بقية الأمل الخافتة في قلوب الشعوب العربية ، لا يهمهم بأن يُتَهموا بالفساد أو التبعية أو العمالة أو السرقة والنهب ولا يهم من يموت تحت ايديهم لأن الراعي الكبير لا يبالي ، المهم هو النتائج ، هذا هو ما يجري في عالم العرب ، إنها مهمة قتل الآمل وقتل الرغبة في الحياة ، السجون التي تبنى والاموال التي تنهب والانتحار المدفوع له وإعادة انتخاب الفاشلين والمجرمين كلها أدوات تُفَعَّل كي تدفع نحو اللا أمل ، اللاامل في استعادة العراق واستعادة حياته واتزانه وقوته.
لم يمت العراقيون الأبرياء تفحما لأن الألعاب النارية فعلت ذلك أو لأن الكحول كان على الطالاوت ، ولم يمت الليبيون بسبب السيل المتوحش ، ولم تقتل الصبايا المصريات المسكينات غيلة في الشارع لأن من الحب ما قتل ، لقد حصل كل ذلك لأنه لا قيمة للإنسان العربي ، ولأن البلاد مفصلة تفصيلا لتلبي هذه الفكرة ، ولأن هذه الأنظمة هكذا تنظر لهذا المخلوق عديم القيمة والأهمية ، أنه شيء بلا ثمن ولا مكانة ولا يستحق بُنية تحتية او فوقية ولا تربية ولا تعليم وهو متروك لتقلبات الطبيعة والظروف ولا حساب له إلا كمنتج ضريبي أو منتج استعبادي للتهليل والتطبيل والتسبيح ، وعند موته يتحول إلى مادة انتخابية لجلب المزيد من القتلة والسفلة والخونة إلى سدة الحكم والتهليل لهم بالتأييد والتأبيد ، هذا هو من قتل هؤلاء الضحايا وهو من سيقتل المزيد في كل العواصم المكسورة الإرادة وفاقدة العقل.
تعيش عواصم العرب مشهدا عجائبيا شاذا يأتي من بلاد ومساحات بشرية وجغرافية مصابة بأكملها بالعجز الجماعي و تمارس الهَرم قبل قدومه ، الشعوب مقعدة ومدانة بحالة من الشلل والحصار والوصول إلى مساحات العجز الاختياري أو القسري ، حكومات وسلطات منحها التاريخ الزمن والثروة والعقول ولكنها تعجز عن صناعة بلد يتمتع بأي خطط للطوارىء أو النظم الادراية او المدنية أو الاجتماعية الصحيحة .
هذا الشذوذ وهذ العجب في المشهدية التراجيدية لا يمكن تفسيره بنقص الأموال والموارد البشرية ولا يمكن تأويله أيضا بحجم أو طبيعة قوى الشر مهما كانت كبيرة أو صغيرة أو متجبرة او متحالفة أو متفرقة ، إنه يتعلق بجزئية واحدة تُحدِث فرقا هائلا ، هذه الجزئية تسمى الإرادة والقرار الحر المستند إلى المصلحة الوطنية والقومية والعربية في إطارها الكبير، إنها الحلقة المفقودة في المشهد العربي حيث الأمر والنهي والتدبير يقع خارج حدود البلد ، لم يعد العراق سريع الاشتعال وليبيا سريعة الغرق وأخرى سريعة الفقر والانتحار والتسول أو سريعة التطبيع ، نحن نعاصر الرحلة الأشد انحطاطا والأسرع في الانزلاق إلى الهاوية ، تسارع في كل شيء من شأنه الفتك بالشعوب العربية وإذلالها وإنقاص اعدادها وإكثار الموت فيها في نفس الموازاة يتم التعمد بالإبطاء الثقيل والمتعدد في التنمية والتطوير والاصلاح والتحديث والاهتمام بالعلم والتعليم والزراعة والصحة والصناعة ، لهذا السبب فكل هذه الأنظمة الهَـشَّة وعواصم الأجل السريع غير مؤهلة للبقاء ولا الديمومة لأنها عديمة الإنتاج وعديمة الأثر فكريا وماديا وصناعيا وأخلاقيا ولا تستغربوا أن غرق عبارة قد يقتل ألف مواطن و بعض الثلوج تتسبب في إغلاق كامل البلاد وهزة زلزالية قد تمسح مدنا بأكملها وحفلة زفاف قد تتسبب في قتل مائتين وبعض الأمطار قد تتسبب في إنهيار عمارات على رؤوس سكانها ، وأرجيلة بالمعسل تخنق حيا بأكلمه ، هذه هي حقيقة الحكومات العربية .
لا يبدو العالم العربي فقط متخلفا عن ركب الحضارة حيث نصارع للحصول على مقومات أساسية للحياة فيما تتقدم العلوم والتقنيات لتمنح المواطن الصيني والغربي الرفاه والتحضر وراحة البال ، بل تحول الحكم الرسمي العربي أو من يشغلون منصب الحكومات والمسؤولية إلى رعاة على المكشوف لحالة مشبوهة من الحط من مكانة الإنسان العربي وإرجاعه إلى العصور الوسطى وتخفيض نسب النجاة ومعدلات الأعمار من خلال تدمير وإهمال وسرقة البنية التحتية وتدمير المعالم الاقتصادية وسحب البساط من تحت أرجل الطبقة الوسطى والحكم عليها بالشقاء والفجائع وتحمل الأمراض و الكوارث الطبيعية .
سيدتي أيتها العربية العراقية لا تحزني ولا تهلعي ، سحابة الغزاة ومخلفاتهم ستمضي كما رحل كل الطغاة والمارقين قرب بغداد ، الأسود لا يليق بك ولا سحابات الحزن المقيم دهرا في العراق ، سيعود النهران عربيين وسيعود الماء عذبا رقراقا ، ستنظف سماء بغداد من الدخان واليورانيوم المنضب وسينمو النخيل الأخضر ليعانق زرقة السماء و ستليق بك كل ألوان الفرح .