القتل والتدمير والإبادة في غزة… والرسالة إلى مصر
كتب / عبد السلام بنعيسي
في خضّم حرب الإبادة المشنة على الشعب الفلسطيني ردا على الصفعة التي تلقاها الكيان الصهيوني على أيدي المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى، تسعى إسرائيل للقيام بتهجير قسري لسكان قطاع غزة صوب جزيرة سيناء. هذا المسعى بات معلوما وأُعلن عنه من طرف أجهزة حكومة نتنياهو، وواضح أنه يحظى بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الغرب، وتتحدث التقارير الإعلامية أن القاهرة تتعرض لضغوطٍ هائلة من أجل القبول بهذا التطهير العرقي.
المشروع المطروح حاليا قيد التنفيذ، يعيد مصر مكرهة إلى قلب الصراع والمواجهة مع الكيان الصهيوني، سواء أراد ذلك صانعو القرار السياسي في القاهرة أم لم يريدوه. فحين وقّع السادات على اتفاقيات كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني كان الركن الأساسي في الحملة الدعائية التي تمَّ اعتمادها للمضي في هذا الخيار هو التخلص من العبء الفلسطيني، وعقد صلحٍ مع إسرائيل، واستمالة أمريكا والغرب لمصر، والانفتاح عليهم، والحصول منهم على دعم مالي، من أجل التفرغ لبناء الذات المصرية، وتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، بعيدا عن الصراع مع الدولة العبرية، بما يصاحبه من تكاليف مالية باهظة، لا تقوى على تحمُّلها الميزانية المصرية الهشة.
ولقد لحق بمصر على نفس الخيار التصالحي، وربما بنفس المبررات، كل من الفلسطينيين في اتفاقيات أوسلو، وتبعهم الأردنيون في اتفاقية وادي عربة، ثم جاءت الصفقة الإبراهيمية التي انخرطت بموجبها خمس دول عربية التي هي المغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان، في مسلسل التطبيع، وكانت كل دولة ترفع شعار: أنا أولا، المغاربة يقولون: المغرب أولا، والمصريون يقولون: مصر أولا، والسعوديون والإماراتيون على نفس المنوال، في إشارة واضحة إلى أن الحكام العرب يتخلون عن القضية الفلسطينية، ويرتمون في الحضن الصهيوني، وكل واحدٍ منهم طامعٌ في النجاة بنفسه، وكأنه يرفع شعار: انج يا سعد، لقد هلك سعيد.
الحرب الدائرة رحاها في غزة، ومع الأحداث التي تترتب عنها، تُبيّنُ بأن هذا الخيار الذي مضت فيه الدول العربية كان خيارا عقيما وشديد الخطورة على الأنظمة الحاكمة، قبل الشعوب. إسرائيل التي كانوا يريدون التودد إليها، لإخراجهم من أزماتهم، بصفقة التخلي عن الفلسطينيين والتخلص منهم، إسرائيل تلاحق حاليا الحكام العرب، وتريد أن ترمي عليهم الفلسطينيين، لتتخلص، هي، منهم نهائيا، وذلك على حساب العرب. الكيان الصهيوني يتحول، هنا، من المنقذ المنتظر للأنظمة الحاكمة، إلى طرفٍ يورط هذه الأنظمة ويضيف عليها أعباءً فوق الأعباء التي تتحملها.
كان الحكام العرب يسعون للفكاك من الشعب الفلسطيني والتبرؤ منه، ومن نضاله ومن قضيته بحثا عن خلاصهم، لكن تأكد لهم حاليا أن هذا مستحيل، فإما أن يساندوا المقاومة الفلسطينية، ويمنعوا سحقها، لتبقى حائط صدٍّ تواجه لهم إسرائيل إلى أن يتم إجبارها على التراجع عن غيها وغطرستها وسعيها للسيطرة على محيطها، وإما أن على الحكام أن يقبلوا باجتثاث المقاومة من غزة، ومع ما يصحب ذلك من تطهير وتهجير للفلسطينيين، ويرافقه من كوارث لمصر وللأردن، ولاحقا لباقي الدول العربية.
أوضحت أحداث غزة، أن المسؤولين في أمريكا والغرب الذين كان الحكام العرب يجهدون من أجل التقرب منهم، لمنافسة إسرائيل، على جلب وُدّهم، هؤلاء الغربيون يحاربون حاليا، بقيادة أمريكا، في غزة، إلى جانب الجيش الصهيوني. أساطيلهم غطت شرق البحر الأبيض المتوسط، وزياراتهم لتل أبيب تقاطرت أكثر من الأيام السابقة. وهم يرعدون ويزبدون ويهددون بالويل والثبور لكل جهة قد تتجرأ على منع الكيان الصهيوني من إنجاز مخططه في غزة.
يمكن اعتبار التدمير الهائل والقتل المفرط وحجم الدمار والنار والدخان المنبعث من غزة، بمثابة رسالة إلى دول الجوار، وأساسا إلى مصر، إنها رسالة صهيونية تقول هذا هو مصير أي دولة منكم تفكر في تحدي إسرائيل. إذا كنا نقصف سكان غزة المحاصرين والمجوعين بهذا الكم من الحمم النارية، والذي وصل في بضعة أيام إلى ما يقدَّرُ بربع قنبلة نووية، فإننا لن نتردد في قصف جيوش وبلدان عربية بقنابل نووية إذا أرادت خوض حرب ضدنا، وسنكون مدعومين في هذا القصف من طرف الغرب وأمريكا.
استراتيجية إسرائيل مبنية على أساس أن تكون لها اليد العليا في المنطقة. لا يمكنها القبول بوجود دول عربية مجاورة لها، تمتلك جيوشا قوية وصناعة عسكرية متطورة، وأن يكون لهذه الدول تنمية اقتصادية شاملة ومستدامة، وأن تحقق تطورا علميا ونهوضا قويا. هذا يتنافى مع عقيدة وجودها في المنطقة وستسعى لإحباط أي مسعى في هذا الاتجاه بدعم من الغرب. الوسيلة الوحيدة لإجبارها ومعها الغرب على ذلك تكمن في هزمها في المنطقة، والمقدمة لذلك تتحدد في إفشال مشروعها الحالي في غزة، ومنعها من سحق المقاومة واجتثاثها، وعدم السماح لها بتهجير السكان من القطاع.
المقاومة الفلسطينية في غزة أدت واجبها وزيادة، دفاعا عن الهامش الصغير مما تبقى من حرية وسيادة واستقلال للدول العربية، والمسؤولية في ما تبقى، ملقاة حاليا على مصر التي ينبغي عليها تحمّلها، فهذا هو قدرها الذي تحتّمه عليها الجغرافية. ثقل مصر البشري ودورها التاريخي يفرضان عليها قيادة المنطقة العربية. ما يحدث من كوارث الآن في العالم العربي ناجمٌ عن تخلي مصر عن دورها القيادي. المطلوب هو عودة مصر لأن تكون الخيمة العربية الجامعة. لكن بشرط، أن تحظى بالدعم الكامل واللامحدود من طرف جميع الدول العربية والإسلامية.
والمستعجل في هذا السياق هو، عقد مؤتمر قمة عربي أو إسلامي عاجل، لمحور عار مقررات مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية الأخير، وإعداد الخطط والبرامج والتدابير العاجلة المطلوبة، للعمل من أجل منع حصول الكارثة. ما يطبخ للمنطقة مرعب، ولا خيار للعرب سوى التصدي له، فإما أن يكونوا أو لا يكونون…