الوطنية والمدنية.. لماذا تحلق طائرات العدو في اجوائنا؟
كتب / علي الزعتري
كان يلفت انتباهي كيف في الغالب يظهر قادة العدو وجنودهم بمظهرٍ تغلب عليهِ اللا رسمية والعفوية بين مسؤولٍ وموظف. ليس في كل الأوقات ولا المناسبات بالطبع، لكن في تلك المناسبات التي كانت تظهر لنا في الإعلام. وفي المقابل نرانا في الغالب ملتزمين بالرسمية التامة وفي بعض الأحيان بطريقةٍ مبالغٌ بها. أيضاً هم في اجتماعاتهم الوزارية يجلسون متكدسين حول طاولةٍ عاديةٍ وعندنا العكس. هم عندهم الخلفية الديكورية ملفتةً ببساطتها وألوانها ونحن تصرخ بعظمتها و بذخها. لا هم و لا نحن تنقصنا المدنية من حيث التعاطي مع العالم لكنهم يملكون، بالإضافة لهذه المظهرية اللا رسمية، من الصفاقة ما نود امتلاكه حين يأتي الأمر للانتقام أو لحماية الأمن. صفاقتهم وقحةٌ و قاتلة. قوتهم باطشة. تهديداتهم عنيفة. لا يعطون بالاً لمجلس أمن أو لرأيٍّ عام. وأقول، يا ليتنا مثلهم في الصفاقة الوطنية!
يا ليتنا مثلهم في عنادهم وصلفهم و تصميمهم ولا مبالاتهم بالعالم عندما يعتقدون أن أمنهم في خطر. يا ليتنا عندما نهدد نضرب. يا ليتنا نُهينُ من يهيننا و نفعل به كما يفعلون. يا ليتنا نجلس مع الكبار نداً لند بل أكبر من الند، لا ضيوفاً مؤدبين و في بعض الأحيان ضاحكين كالطفل المذنب أمام الكبير المُعاقِبْ أو المنتظر لمنحةٍ. يا ليتنا بتنظيمهم الذي نراه و ضراوة حرية قولهم بوجوهِ بعضهم إن اختلفوا وبقوة صفوفهم عند اشتداد البأس رغم ذلك. يا ليتنا لا نبرر غضبنا و نعبر عنه بالقوة التي تقول للعالم أن يخرس عندما نهاجمُ لندافع عن حقوقنا. يا ليتنا. يا ليتنا نترصدُ عدونا و نأتي به ولو بعد حين مثلما يصطادون قادتنا وعلمائنا وإعلاميينا المخلصين. يا ليتنا نحاسبُ الحساب العسير من يتطاول على خالقنا وديننا وقرآننا ورسولنا كما ينتفضون هم لكل من يهمس عليهم و ضدهم. لا أقول فلنكن عنصريين مجرمين بل فلنكن أُباةً لا نرضى الظلم ونرد الصاع للظالم بالصاعين. إن أشدَّ الألم أن نتمنى أن نكون مثلهم، لكن عروبتنا الحديثة لم تترك لنا مخرجاً سوى هذه الأمنية المُرَّة.
ليس عيباً و لا هو تنازلاً الانتماء للمدنية، إلا في حالتين: أن تُفقِدَنا المدنية انتماءنا للدين وللوطن. وليس الانتماءَ للدين والوطن وجاهةً و سطحيةً بل غرزاً عميقاً للروح الإيمانية والوطنية في القوانين، و تطبيقها دون محاباة، وفي التربية و التعليم و في خلق الحال الإجتماعي الذي لا يرضى تمايزاً عن الصدق في الدين و في الوطن. غير أن ما نراه هو غلبةَ التمايز و انتصار الوجاهة السطحية و استمراء كل أنواع و أشكال التمدن على تفاهة محتواها و مظهرها. و أخطرها تحويل الدين من عمقٍ روحي و جسدي إلي سطحيةٍ ترددها الألسن و تقوم بها الجسوم عادةً و رتابةً. صحيحٌ أنهم في أفعالهم لا ينتمون لصحيحِ دين و لو انتموا لما كانوا مجرمين. إنهم يدافعون هجوماً من منطلقِ اعتقادٍ الوثني الذي يدافع عن صنم. لكنهم يفعلون، ونحن الذين على الملة الصحيحة نتهاون ليس كسلاً بل اختياراً.
ما الحل؟ أكادُ أقول أن الحل ليس بيدينا لأننا لا نريد أن نتغير خوفاً من أن نفقد لصقةَ المدنية التي أفقدتنا معاني الدين وجوهر الوطنية و التي نلاحقها ملاحقة الملهوف العطشان للماء، و لو كان الماء مالحاً أو ملوثاً فسنجرعهُ سُعداء. لقد صارت ملاحقة هذه المدنية أكثر جاذبيةً من الحق الوطني الأعم لما نعتبرهُ الوطن العربي و من حقوق مواطنيه. يترافق هذا الركض لاكتساب هوية المدنية العالمية مع الأنانية المطلقة، فالوطن العربي الكبير تقلص من وطنٍ من الخليج للمحيط إلى الدولة، و الدولة امتلكتها القبيلة أو حتى القرية التي أتى منها القادة، و وصل التقلص لمستوى العائلة والفرد فصرنا نرى مصلحة الوطن الصغير في ما يضمن مصلحتنا الميكروية، بل نحن على استعداد للتضحية بالوطن الصغير و الكبير و المبدأ للبقاء عائلةً و فرداً و عشيرةً و قريةً منتصرين على الآخرين لنضمن ديمومة هذه المصلحة. مع هذا التحول انفتحت الشهية على الامتلاك لكل شيء، من الإبرة للطائرة، فمن عنده يشتري و من لا يملك يقترض و يطلب العون ليشتري. لكن لا صاحب المال يملك ما اشترى، حتى طعامه، و لا المدين بات يملك نفسه. باسم المدنية بعنا واشترينا: بعنا انتماءً واشترينا تبعيةً.
المدنية و التبعية أرمدت عيوننا إلا من رؤيتها و اشتراطاتها. ألا يستحق الدم المراق أن تمنع الدول العربية الطيران الصهيوني و الوطني و الأجنبي الذاهب الآتي و العابر فوق فلسطين المحتلة من عبور أجواءها؟ ألا تستحق الأجساد الفلسطينية المقطعة و المهروسة منع الصهاينة من دخول بلداننا؟ لكنها المدنية. و هناك ألفَ “ألا تستحق” لكن المدنية تقول للعرب أن الفلسطيني قد يستحق ما يحصل له لإثارته الدبور الصهيوني اللادغ و ما كان له أن يفعل لو كان سوِّياً. لذلك فإن نصرته بغيرِ الأكفان و بعض المعلبات غير مطلوبة إلى أن تضع الحرب أوزارها و عندها يلتقي الأحياء و تُقسمُ التركة. و لهذا فإن وفاةَ زعيمٍ تتطلب قراءة القرآن و تنكيس الأعلام أما موت الآلاف ظُلماً فلا تستحق حتى وقف المهرجان. إنها المدنية. المدنيةُ التي باتت تعبد وثن الهالووين و ترقص عارية و تفتح حدودها للتجارة مع الصهيوني.
حال العرب جاهليةً مجنونةً. و مع أنه كان في الجاهليةِ ما يُشَّرِفُ العرب فإن جاهليتهم التي يسمونها اليوم مدنية تبقى بلا شرف.