رواية المقاومة لإسناد غزة.. لا تخون التاريخ ولا تخرج عن أحكام الجغرافيا
كتب / صادق النابلسي
ماذا لو نجحت إسرائيل خلال أيام أو أكثر بالقضاء على المقاومة في غزة واجتياح القطاع وإرغام أهله على مغادرته إلى سيناء أو بلدان أخرى؟ ألا يعتقد أولئك الذين ينتقدون حزب الله، على جهده الحربي الإسنادي للفلسطينيين، أنّ إسرائيل سترى أنّ الوقت مناسب لتوسيع الفرص بضرب لبنان.
تعتبر إسرائيل أنّ حقها باستخدام القوة العسكرية المفرطة، إذا ما ظهر أي تحدٍ لهيمنتها وموقعها ومكانتها أو تدمير ذلك التحدي قبل أن يصبح تهديداً، هو جزء من الدفاع عن النفس. القوة هي مقياس كل شيء، فطالما تمتلك إسرائيل هذه القوة فإنها ستقوم بشن حرب أو ضربات ولو انبنتْ على أسس مريبة (الحرب الوقائية). المهم بالنسبة إليها القيام بالعمل الحربي بطريقة ذات مصداقية في أعين سكانها ورعاتها، وليس على أي أساس في القانون الدولي الذي تحوّل مع الوقت إلى شبكة تحاصر الضعفاء فيما تسمح للأقوياء بالمرور. فكيف إذا كان بينها وبين مَن يسكن في جوارها صراع وجودي؟ وكيف إذا كان بينها وبين حزب الله ثارات يُتوقع أن تظل حتى يُزيل أحدهما الآخر؟
مَن يعتقد أنّ حزب الله يستدعي حرباً إسرائيلية يتناسى ماهية إسرائيل وتاريخها الإجرامي بحق لبنان واللبنانيين. إنّ السيطرة على لبنان جزء محوري في الاستراتيجية الإسرائيلية وليس له علاقة البتة بحزب الله، بل وحتى قبل ظهور الغاز في بحره. السيطرة على لبنان كان محل اهتمام دائم لدى القيادات الإسرائيلية التاريخية (مطالب الاتساع المستمر)، وقبل أن يظهر الحزب على مسرح الأحداث العسكرية في العقود الأخيرة كفصيل مقاوم شرس استطاع إبطال سياسات القوى الغربية في لبنان وبعض بلدان المنطقة وجعل إنهاء القضية الفلسطينية أمراً مستحيلاً.
بعد العام 2006 كانت إسرائيل قيد الإعداد بالفعل لحرب جديدة. مَن تابع المناورات العسكرية والجهد الاستخباري والاستعداد اللوجستي يدرك أنّ إسرائيل كانت تنوي شن (حرب استباقية) وإنْ باتت أصعب مع معادلات الردع التي أرساها الحزب وتمكّن خلالها من تعطيل عنصر المفاجأة لا النوايا. إنّ الغريب أن يبدي الصهاينة إدراكاً بأمن كيانهم أكثر مما يبديه بعض اللبنانيين بأمن بلدهم.
رد فعل هذا البعض الذي ينتقد دور الحزب في معركة الإسناد إنكار للثوابت التي تقوم عليها استراتيجية أي دولة وأي أمة، وهي ثوابت الجغرافيا والتاريخ والدين. هذا البعض لا يريد من لبنان القيام بأي شيء في نطاق الممكن. بل لا يريد أن يكون هناك رغبة لفعل أي شيء. مأساته هي بفقدانه الذاكرة والحلم. نسي ما فعلته إسرائيل بلبنان، وما همّه أن تعود فلسطين إلى الفلسطينيين والعرب. ليس صدفة أن يستعيد (فريق الحياد) نشاطه ويضع ما يقوم به حزب الله في الجنوب في إطار التباين الثقافي النفسي أيضاً. بزعمه أنّ (فريق المساندة) الذي يتزعمه حزب الله يريد أن يجرّ اللبنانيين إلى الماضي “وويلاته”، والمطلوب حتى تتطور عملية التغيير على مستوى المنطقة ويتحقق “السلام الشامل وإيجابياته”، عدم الالتفات إلى الماضي. فريق الحياد هذا يُصرّ على ضرورة التخفّف من الماضي وحمولاته و(الهروب من الجغرافيا ـ إلا إذا كانت تؤدي إلى تطبيع العلاقة مع إسرائيل ـ والانقطاع عن التاريخ). ويقول مؤيدوه: إنّه إذا كان لا بد من العودة إلى التاريخ، فلكي نعرف عنه وليس لكي نتمسك به! هكذا ببساطة على كل اللبنانيين أن يقاربوا القضية الفلسطينية معرفياً، أي من دون تحويل المعرفة إلى إرادة سياسية تقود إلى عملية تحرير الأرض.
إذا كان حزب الله يعتبر أنّ التدخل في هذه المعركة يقوم على مبدأ (استمرار الجغرافيا وتدفق التاريخ) فلأنّه يريد أن يكون جزءاً من إرادة الأمة. لم يكن انخراطه سياسته وحده، بل سياسة الأمة التي ترفض حاكمية الاستعمار وهيمنته على تراب الوطن العربي وثرواته. فهو لم يأتِ بقواعد وأعراف جديدة. هذه هي قواعد وأعراف الأمة. بل إنّ التدخل هو بمقتضى القرارات العربية الأولى التي تنصّ على وجوب مساندة فلسطين وشعبها قبل أن تتغير بمال النفط إلى قرارات لا تعكس مصالح العرب ولا تتناسب مع قيم أهل المنطقة الأصيلين ولا مع حجم وجودهم الحضاري والتاريخي.
يبدو أنّ بعض اللبنانيين غير مدرك بما فيه الكفاية لما يجري في العالم. غير متنبّه أنّ ما يحدث في فلسطين يدخل في نطاق الأمن اللبناني. وأنّ التعامل بالمنطق القبلي ما عاد يجدي في وقت العالم كله يتعامل على أساس أنّه في عالم واحد ويتفاعل مع أخطار واحدة. أمريكا تقول طلبها بوضوح، وهو أن تكون المنطقة بأسرها تحت عهدتها ونفوذها، وإسرائيل تصرّح على لسان نتنياهو بأنّها تريد “تغيير الشرق الأوسط”، وهنا مَن يريد أن نسلّم بشكل عشوائي كل أوراق اللعبة لهما.
إذا كانت أمريكا ترى من حقها أن تكون المنطقة تحت نفوذها، وإسرائيل ترى أنّ من حقها التوسّع لشتى الاعتبارات، فلماذا لا يكون من حقي كلبناني أن أقاوم هذه المخططات؟ أمّا الكلام المسوق حول الخلل في موازين القوى فلا تكون الإجابة عليه بالحياد والتلكؤ والرضوخ للموقف العدواني الإسرائيلي ومغامراته وانتقاد دور حزب الله، بل بالتوقف عن أوهام السلام والخروج بتصورات عملية طموحة تحصّن موقع لبنان وتعطيه الفرصة ليؤدي وظيفته القومية وليس لدفع لبنان خارج الوظيفة القومية. كان ينبغي أن يكون هناك تقدير أكبر من كل القوى اللبنانية لدور المقاومة التي تمنع الأسوأ عن لبنان لا تعزيز الرواية الإسرائيلية المليئة بالأكاذيب والتضليل والتوهين. إنّ تردي الوضع العربي وخذلان العرب للقضية الفلسطينية لا يجوز أن تشكل لحظة هروب للبعض من المسؤولية الوطنية والإنسانية، ولا يجوز أن تسمح لأحد أن ينسى ضرورات الموقع ولا يجوز أن تجعله متشائماً تاريخياً.
عندما يتلكأ لبنان يعطي العدو فرصة ليكون أكثر حركة وعدوانية ووحشية. موقف الهرب واللامبالاة والتلكؤ ليس موقفاً عقلانياً. الهروب سيجعل لبنان في حضن أمريكا وإسرائيل. أما التكاليف فستكون باهظة ومدمرة على أمن لبنان واستقراره وسيُدخل البلد في دوامة من العنف عايشها الكل وعرف هولها ونتائجها. إنّ السؤال الذي من المفترض أن تجيب عنه القوى السياسية المناوئة لحزب الله هو حول مفهومها وتصورها للأمن. ما هو مطروح على لبنان هو الخضوع والاستسلام وتنفيذ المطالب الإسرائيلية. فهل تقبل بذلك وهي في الوقت نفسه ترفع شعارات الاستقلال والسيادة؟ من الواضح أنّ هناك مأزقاً في التوفيق بين مطلب الحياد وضرورات السيادة. بين تحصين الأمن المحلي وتحقيق الشروط الخارجية. لا توجد صيغة أمام هذه القوى تخرج بها أمام الرأي العام اللبناني تحلّ بها هذا التناقض، لذلك هي مهتمة بالتشويش والتشكيك والتجييش الطائفي للتعويض عن هذا الإخفاق في تقديم تصوّر بديل عما تفعله المقاومة لحماية لبنان من موقع الجغرافيا والتاريخ والسياسة.
مَن يستمع إلى تصريحات بعض هذه القوى منذ أن بدأ حزب الله بالانخراط في عملية المساندة في الثامن من أكتوبر الماضي سيجد أنّ الطائفية هي الوعاء الأهم الذي تم اللجوء إليه طلباً لليقين وطلباً للشجاعة، بعد أن اهتزت رؤيته حول السيادة واصطدمت بمشاريع الغرب الذي يريد أن يرسم خريطة للمنطقة ولبنان، ينتزع فيها خطاً من هنا وأرضاً من هناك.
بعد السابع من أكتوبر لا بد أن تتغير الرواية اللبنانية التقليدية حول “قوة لبنان في ضعفه” والتي ما زالت قوى تعتقد بصحتها وتتبناها على مستوى الممارسة والخطاب العام. اللبنانيون بحاجة إلى تأكيد وجودهم الوطني وليس الطائفي، ودورهم ضمن الحقائق التاريخية والجغرافية وليس بالابتعاد عنها والانسحاب من استحقاقاتها.
اللبنانيون مطالبون بتغيير ما يجب تغييره حتى لا تستمر الكارثة، وتأكيد ما يجب تأكيده كي يواجهوا المستقبل أقوياء. رواية المقاومة هي رواية الإرادة الوطنية. رواية لا تخون التاريخ ولا تخرج من أحكام الجغرافيا. الوثيقة الرسمية الأكثر أصالة ووضوحاً لبقاء بلاد تمرّ في حال دائمة من الخطر.