التوظيف الخاطئ في بعض الدول العربية!
كتب / موسى العدوان
في حديث لوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق عيزر وايزمن، عندما كان في رحلة من القاهرة إلى أسوان بطائرة عمودية، تقله مع الفريق الجمسي وزير الحربية المصري، لمقابلة الرئيس السادات، بعد توقيع اتفاقية السلام في كامب ديفيد، قال وايزمن وأقتبس :
“بدأ حديثي مع الجمسي يدور حول الماضي، لأننا ساهمنا بقدر غير يسير في خلقه. وخلال الحديث تطرقنا إلى حرب الأيام الستة، فرأيت سحابة قاتمة تحوم فوق وجه الجمسي، إذ لم يكن يرغب في استعادة ذكرى مطلع شهر حزيران 1967. ولم أجد سببا يجعلني أضغط عليه في هذا الموضوع. ومع ذلك فقد كنت مهتما بشخص واحد هو المشير عبد الحكيم عامر، وزير الحربية المصري إبان حرب الأيام الستة، والذي انتحر في أعقابها. لقد كان الرجل بالنسبة لنا لغزا محيرا، فلم نعرف هل كان غبيا أم ذكيا ؟ إذ كان عامر في رحلة جوية، عندما بدأت الحرب في الخامس من حزيران 1967.
وعندما انطلقت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي لتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة على الأرض، وجدتْ طائرته صعوبة في العثور على مكان للهبوط فيه، فسألت الجمسي : من أي طراز كان عبد الحكيم عامر؟ فأجاب : ماذا يمكن أن تتوقع من ضابط برتبة رائد، يُرفّع مباشرة إلى رتبة مشير ويتولى قيادة جيش؟ ولمست من إجابة الجمسي لهجة الاستخفاف. . فابتسمت في نفسي ولذت بالصمت “. انتهى الاقتباس.
* * *
لقد كانت إجابة الجمسي تتضمن التعبير ضمنا، عن التعيين الخاطئ الذي ارتكبته القيادة السياسية، بترفيع عامر إلى رتبة مشير، متجاوزا كل الرتب التسلسلية ووظائف القيادة بين المنصبين. ولم يكن مثل هذا التجاوز في التوظيف العسكري مقتصرَا على المجال العسكري، بل تعداه إلى التوظيف المدني الخاطئ في بعض الدول العربية. فرغم دخولنا الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، إلاّ أن الصداقات والمحسوبيات والقرارات الفردية، ما زالت تلعب دورها من قِبَلِ بعض كبار المسؤولين في تلك الدول.
ومن الأخطاء الشائعة في دولنا العربية هذه الأيام، أن إعادة توظيف كبار الموظفين، تجري لمن يحملون تخصصات معينة، في مواقع أخرى تختلف بطبيعتها ومهامها عن تخصصاتهم الأساسية. فمثلا قد يتم تعيين طبيب يحمل تخصصا عاليا بمهنته، ليشغل وظيفة وزارية بتخصص آخر يفقده متابعة تخصصه الطبي، ويفتقده مرضى ذلك التخصص.
أو قد يعين ضابط من الجيش متخصص بأعمال الميدان، ليشغل موقعا رئيسيا في جهاز الأمن العام ليتعامل مع قضايا أمنية يجهل طبيعتها. أو قد يعين طيار متمرّس في الأعمال الجوية ليقود تشكيلة برية، فيتحول عمله من الجو إلى عالم آخر على الأرض. فهذا النوع من التوظيف الخاطئ، الذي يختلف بطبيعته وفنياته عن وظائفهم السابقة، ينعكس سلبا على الوحدة المتأثرة، ويؤدي إلى التخلف في أدائها.
وللتدليل على التوظيف الخاطئ سأورد المثالين التاليين في المجالين العسكري والمدني :
في أواسط القرن الماضي وفي قواتنا المسلحة، جرى تعيين ضابط مشاة برتبة عميد قائدا للواء مدرع، هو من أفضل ألوية القوات المسلحة. هذا الضابط كان أيضا من خيرة ضباط القوات المسلحة كفاءة وإخلاصا بالعمل، وكان قد تخرج من كلية الأركان البريطانية / كامبرلي، كما كان قبل ذلك قائدي ومدربي في الكلية الحربية في أوائل الستينات الماضية.
وفي أحد الأيام ذهب لزيارة كتيبة دبابات من لوائه في ميدان الرماية. وعندما سأل أحد الضباط الصغار عن الرماية التي يقومون بها، أجابه بأنها رماية تصفير. لم يفهم قائد اللواء هذا المصطلح وأعتقد أن الضابط يهزأ به. وعندما عاد إلى مكتبه طلب من أحد ضباط الأركان المتخصص بمهنة الدروع ان يشرح له معنى ” رماية التصفير “. قال الضابط أن هذه العبارة تعني توليف برسكوب التسديد في الدبابة مع قذيفة المدفع على الهدف مكن أجل دقة الإصابة. عندها تناول قائد اللواء ورقة وكتب عليها طلبا للقيادة العامة، بنقله من لواء مدرع لا يعرف فنياته، إلى لواء مشاة ضمن تخصصه، وكان له ما أراد.
وفي أوائل التسعينات عين رئيس الوزراء الشريف زيد بن شاكر، طبيبا كان ماهرا بتخصص الكلى وزيرا للبريد والاتصالات. وفي أحد التعاقدات الفنية مع إحدى الشركات وقع الطبيب على اتفاقية معينة، تبين لاحقا أنها مخطوءة. فعندما سأله رئيس الوزراء لماذا وقع بذلك الخطأ ؟ أجابه الطبيب بأن هذا العمل ليس من تخصصه ولا يعرف فنياته، ولو عينه بمجال صحي لما وقع بمثل ذلك الخطأ، الأمر الذي جعل الرئيس ينقل حقيبته إلى وزارة الصحة.
وكذلك حينما يُعين طيار متمرس بأعماله الجوية، في قيادة وحدة أو تشكيلة برية هي من اختصاص ضباط الجيش، فإنه سيواجه صعوبات في التعامل مع مرؤوسيه، لأنه قادم إلى عالَم جديد يتطلب قيادة مباشرة لعناصر بشرية، لها مشاعرها وطبيعتها في أساليب العمل، وليس كقيادة آلة حديدية تحلّق منفردة في الجو، مختلفا عن عمل القوات البرية على الأرض.
وإذا ما نظرنا إلى أسلوب التوظيف في العالم المتقدم، سنجد أن تسمية أي مسؤول كبير لشاغر وظيفي معين – حتى وإن كان من قبل رأس الدولة – لا يعتبر نافذا إلاّ بعد أن يُجري له ممثلو الشعب جلسة استماع للتحقق من كفاءته، ثم تجري الموافقة أو عدمها على توظيفه في المنصب الجديد.
والكفاءة والتخصص .. هما العاملان الحاسمان في التوظيف للمناصب العليا، وليس المصالح والعلاقات الشخصية. فكم من وظيفة هامة في عالمنا العربي، جرى إشغالها من غير أصحاب الكفاءات أو ذوي التخصص، كانت نتائجها التخلف عن مسيرة التقدم العالمي. وأستثني من ذلك ما جرى في دول الخليج العربي، من تقدم وازدهار في العقود الثلاثة الأخيرة، كان نتيجة لاعتماد العاملان المشار إليهما مقدمة هذه الفقرة. ولو عاد وايزمن للحياة هذه الأيام، لرأى عجائب التوظيف العسكري والمدني في دولنا العربية . . !