هل يؤلمك الجوع يا خضراء العينين؟ لقد أشبعت الأمة بأكملها وصنعت أسطورة الكرامة
كتب / خالد شــحام
شهور خمسة يا غزة وأنت تقفين في وجه النار وتحملين عبء العرب جميعا وتنزفين عنهم جميعا، شهور خمسة يا غزة وأنت تذهبين رحلة الشتاء والصيف وتطعميهم من جوع وتأمنيهم من خوف، شهور خمسة تكتبين التاريخ الجديد لفلسطين في كل شارع من العالم ، لا نامت أعين الجبناء يا مدينة المقاتلين ولا قرت أعين المتخاذلين الذين تاجروا بدمك وطعام أطفالك واعتدوا على هوائك المسحور بعطر البرتقال الخالد وصوت بحرك الذي يلقي قصائد الغزل.
في داخل غزة ثمة مجموعة من المعارك تجري بمعية بعضها البعض ، هنالك اقتحام بري وحشي وقصف بالطيران والمدفعية الهمجية وعمليات قتل واعتقال وتنكيل تجري على قدم وساق ، يضاف إلى ذلك حرب من نوع آخر أشد خطورة تسمى حرب إنتزاع الإنسانية بهدف الكسر المعنوي ، في حرب إنتزاع الإنسانية يتوجب تدمير القاعدة المادية المعززة للمعيشة البشرية للوصول بهذه الناس إلى مرحلة الشعور بالعجز وفقدان الخصائص الصحيحة والحضارية لمسمى الإنسان ، يجب قطع الماء ليس للتعطيش فقط بل للدفع بالإنسان للشعور بِكُره نفسه واحتقار كينونته ، يجب قطع الكهرباء لإلغاء كل امتيازات الحضارة وإطفاء العون الذي توفره الآلة الكهربائية والميكانيكية ، يجب ضرب شبكات الصرف الصحي وخطوط الاتصالات للشعور بالحصار والوحدة والاستفراد والانقطاع عن الدنيا والسقوط في كهف العصور الحجرية ، يجب إطلاق كلب شرس خاص اسمه الجوع ليقتحم البيوت والخيام والمدينة اليائسة و يجب منحه المدة الكافية للدفع بها إلى حدود الجنون ، هذا هو ما يجري في غزة بشكل يفوق الوصف العاجز.
فن التجويع في الضمير العسكري -السيكولوجي له أدبياته ومكوناته وطرق إدارته، والحصول على منتوج التجويع المثالي وفقا للمعايير الأمريكية يتمثل عادة في ترندات تُظهِر أطفالا أو رجالا اقفاصهم الصدرية العارية بارزة جيدا على مرأى الكاميرات العاهرات ، وفي كتيب الانحطاط الاسرائيلي يعتبر التجويع مدرسة لها منظروها وتبعها وأوامرها المفصلة المحاطة بقداس الحاخامات ، من أجل إطلاق عملية التجويع وتحقيق غاياتها لا بد من توافر أضلاع العملية ، وبادىء ذي بدء لا بد من توافر عقلية إجرامية خارجة عن الإنسانية ذات نوايا مبيتة ونص مقدس يمكنه منح العملية الفرمان اللازم ، ثانيا يجب أن تكون لديك حلبة محاطة من كل الجهات وذات مدخل واحد يحرسه طاقم مخصص للإدخال والإخراج ، من خلال هذا المدخل يتم إدخال الضحية إلى الحَلَبَة ومن بعدها يتم الزج بكلب الجوع ومن ثم الضحية المطلوب تجويعها ، الحلبة طبعا تتطلب متفرجين ومصفقين للكلب كلما قام بإنجاز عضة في جسد الضحية أو كلما سال الدم وفتح الشهية أكثر، والجمهور كما ترون كبير والإقبال على التذاكر والرهانات عال العال، حلبة التجويع تتطلب أيضا خبرة وممارسة واستشارات وكذلك استثمارات ولا شك أن جماعة بني اسرائيل حصلوا على بعض المشورة من جنرالات العرب الخبراء في تجويع شعوبهم وأصحاب المذهب الفقهي الكبير (جوع كلبك يعبدك)، تستلزم عملية التجويع أيضا أسوارا عالية وأحيانا مكهربة وكاميرات مراقبة، يتطلب الأمر مبيعات وباعة متجولين يبيعون العصير والحلوى للمتفرجين ولا مانع أحيانا أن يلقي المتفرجون بعض فتات الطعام أو علب العصير على الضحية داخل الحلبة لمنحها بعض الأمل الواهم والإثارة اللازمة.
على شاطىء العالم الثاني من غزة التي تقع في مجرة مختلفة وكوكب مختلف يقع القسم المصري من معبر رفح حيث أظهرت صور جوية بثتها قناة الجزيرة تكدس أكثر من ألفي شاحنة من المساعدات العالمية تقف في طوابير طويلة ومملة وملقاة ذات الشمال واليمين ، طوابير من الإذلال والمنع واللؤم العربي مكدسة على شكل جثث معدنية مملؤة بطعام وشراب واحتياجات ماتت وهي تنتظر الوصول إلى أصحابها الذين ماتوا بدورهم من انتظارها ، لوحة سريالية يرسمها الجنرال سلفادور دالي تحكي حكاية المهانة العربية على شكل خط متعرج من شاحنات انصهرت فوقها الساعات من حر الألم وتراخت على أجساد الشاحنات في محاكاة للوحة “إصرار الذاكرة ” لسلفادور القديم ، طوابير مكدسة من الخذلان والانفصام عن الهوية ملقاة لتقهر كل عربي وكل حر وتؤكد اننا نفعل ما نؤمر كرما وحبا لبني اسرائيل ، لقد أرسل المعبر رسالة بكاء ورثاء إلى النظام العربي بكله ، لكن النظام اعتقل المعبر وتمكن خلال فترة الاعتقال من تأديبه لأنه تعاطف مع المدينة المُجَوَّعة وبعد اعتقاله هرب المعبر من كل بلاد العرب بعدما كتب رثائية تليق بمحمد حسني مبارك الذي تحل عليه الرحمة الان.