هل اقلع الهيلكوبتر الأمريكي من الشرق الاوسط الى غير رجعة؟
كتب / عمر محمود بنجلون
بعض المعلقين، منهم المثقفين و منعدمو المشروعية أو الصفة، منهم المستقل و المأجور، منهم المُعَرَّب والفرنكوفوني، يتقاطعون في النزعة الانهزامية و احتقار الذات كأعطاب موروثة عن الاعتداء الاستعماري و استمراريته النيو-كولونيالية في التطرق لعلاقة الغرب بالعالم الثالث و الشرق الاوسط. يُحَقِّرُون و يستهزؤون و يَسْخَرون من القوى المناهضة للاستعمار خدمة للمستعمر في نسف سافر لمعنويات المبادرات المقاوٍمة و المدنية و الفكرية و الفنية، سجناء العقلية التبعية لفترة ما بعد الاستقلال لعل اخر تمضهراتها الماسخة هي الإشادة بالتطبيع مع “إزرائيل” كإجراء شاد لتعارضه مع التحولات الجيواستراتيجية الكبرى و الحتمية التاريخية المنحازة لتحرر الشعوب لا لدوام الاستعمار.
تناترت هنا و هناك كتابات سطحية استنجدت بمهارات “النقد المسرحي” و بمناهج “البراكملتية الانهزامية” في التعليق على هزيمة الكيان الصهيوني في غزة، تركز كما عادتها على تفوق و استباقية الغرب في مجريات كل الأحداث، مُرَوِّجَة ل “الخطة الصهيو-أمريكية في تهجير الفلسطينيين من غزة للاستيلاء على الأرض” و “مخطط امريكا للتخلص من النتن-ياهو حماية للمصالح الكبرى لإزرائيل” و “إدخال إيران في المواجهة خدمة لإزرائيل بفك عزلتها في المجتمع الدولي أو انطلاق التوسع الصهيوني” بل و ان كل ذلك “مسرحية مهيئة مع امريكا لحفظ ماء وجه طهران” … عقليات غير قادرة على استيعاب افول الغرب و تعثر وكلائه، و غير مؤهلة لتحفيز آلياتها التحليلية تجاه واقع نهضة قوى عالمية جديدة مؤثرة على العالم العربي تتلاقح مع مقوماته الممانعة و ضميره الجماعي لقلب ميزان القوة بصفة نهائية.
في الحرب العالمية الثانية و حقبة الاستقلالات خرجت أمريكا من عزلتها و اصبحت جزءا من الحل التحرري، لكن الحرب الباردة و ابتداءً من حرب فيتنام اضحت الولايات المتحدة جزءا من الواقع الاستعماري الجديد. هزيمة سايكّون و مقديشو و بغداد و قابول و دمشق و اليمن و كييف و غزة، و غدا طايوان، التفوق الاقتصادي الصيني على امريكا و العسكري الروسي عليها و صلح السعودية مع ايران … كلها مؤشرات على تجاوز المركب العسكري-الصناعي الأمريكي، تطرح عودة امريكا لوضعها المنزوي لما قبل الحرب العالمية الأولى بعد التخلي عن عملائها من دويلات (إزرائيل نموذجا) و مؤثرين و إخلاء قواعدها العسكرية “مٌكَلِّفَة اقتصاديا و اخلاقيا و ديبلوماسيا” كما جاء في تقرير الاستخبارات الأمريكي المرفوع للرئيس المنتخب سنة 2008 مبارك الحسين أوباما، لتجنب حرب أهلية داخلية و إفلاس اقتصادي من جهة و التركيز على جبهة الصين الشعبية المنافس الاعتباري و الحضاري الحقيقي لأمريكا من جهة أخرى.
هزيمة امريكا و اسرائيل و داعش في سوريا و فشل التطبيع بين بعض الدول العربية و “إزرائيل” و انتصار المقاومة الفلسطينية في غزة، جعلت الكيان الصهيوني يطبق نظرية “مفكره” الامريكي المهزوم في فييتنام هنري كيسنجر، “نظرية الضرب العشوائي” أو “نظرية الاحمق” (la theorie du fou) المستوحاة من لعبة الشطرنج الفارسية، و ذلك بإبادة جزء من الشعب الفلسطيني و قصف مجال ديبلوماسي إيراني بسوريا من أجل حرق الشرق الأوسط و خلط الأوراق و التضليل على الميدان الفلسطيني و ابتزاز الحماية الأمريكية في حالة التخلي عليها و على المنطقة بصفة عامة.
اليوم تغير عنوان و معسكر التكتيك و الاستراتيجية و الاستباقية و المناورة و الدهاء و الذكاء … فلا يتبنى الكيان الصهيوني الا سياسة الأرض المحروقة التي يطبقها المستعمر عندما يشعر بنهاية سلطانه في أراض محتلة كما فعلت بلجيكا في الكنغو و البرتغال في غينيا أو انكولا، بعيدا عن كل الأوهام الفقيرة التي تفرزها التحاليل السياسوية لأصحاب الفطرة الانديجينية.
ابن رشد نضم معادلة رياضية في علم النفس كما ينضم البيت الشعري على القاعدة التالية : “الجهل يولد الخوف و الخوف يولد العنف”. الكيان الصهيوني فقد كل خططه الاستراتيجية في الوجود و الاستمرار و يجهل مصيره بعد 80 سنة من الاحتلال و الكذب و الابادة و التزوير، متعايشا مع شبح تخلي امريكا كما تخلت على شاه إيران و جيش فييت كونغ لعدم قدرتهما على حماية مصالحها في بلاد فارس أو فييت نام. الكيان الصهيوني اليوم عاجز على حماية مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بل هو من يحتاج الولايات المتحدة في حماية وجوده بالمنطقة. بعيدا عن عقليات “العبودية المختارة” للكاتب الفرنسي لابويسي، فلسطين آخر ملف استعماري تعرفه الإنسانية مصيره الانتصار و التحرر.