الفلسفة وأنسنة الإعلام
كتب / د. محمد وهاب عبود
لم تسلم الفلسفة أو “أم العلوم” كما يُطلق عليها من الهجمات والطعنات، سواء تلك التي طالت رموزها أو مبانيها الفكرية وأطرها المفاهيمية، منذ نشأتها الأولى وحتى يومنا هذا، إذ تشعر شريحة واسعة من المشتغلين بها والمهتمين بشؤونها، بأن ممارسات قمع الفكر الفلسفي وأبعاده النقدية والانسانية والأخلاقية تجري على قدم وساق ودون أدنى كلل أو ملل، ولعل السبب الجوهري في ذلك يعود إلى أن الفسلفة هي مصنع التساؤلات الكبرى والشكوك العظمى والنقد العميق، في حين أن الأغلبية تبحث عن معلبات من الأجوبة الجاهزة لأسئلتها والحلول الآنية لمشكلاتها الحياتية.
الفلسفة يمكن وصفها بالمعطاء، واليد السخية التي منحت مجمل التخصصات العلمية مادتها الأولية: الأفكار والمفاهيم والتصورات، لا سيما مجال الاتصال والإعلام، إذ ثمة علاقة تبادلية وتشاركية بين الإعلام والفلسفة امتدت لعقود لكن شيئا فشيئا بدأ الإعلام رحلة هجرة الفلسفة والانغماس في الجوانب التطبيقية: التقنية والتكنولوجية والتشغيلية ونظريا في الجانب التأثيري، على حساب العناصر الفكرية والقيمية والمعرفية والاخلاقية التي ألهمته إياها الفلسفة وشكلت نظرياته الاعلامية: الاستبدادية والماركسية والليبرالية وغيرها.
والمثير للاستغراب أن مناهج كليات الإعلام في العراق للدراسات الاولية والعليا تخلو من مادة الفلسفة، في حين أن أغلب معاهد وكليات الدراسات الاعلامية والاتصال في الدول المتقدمة تدرج في مقرراته الدراسية مادة الفلسفة أو فلسفة العلم بغية تنمية الفكر النقدي للطالب وتسليحة بالمفاهيم المجردة، التي تزخر بها الفلسفة من حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والمسؤولية الاجتماعية والفردانية والطبقية والملكية وتجلياتها في وسائل الإعلام.
ويعيش المشهد الاعلامي الحالي، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي حالة من الانتكاسة لإغراقه في محتوى الخلاعة وتسليع الكائن البشري، وإحالته إلى مادة للترويج وللإعلان لا سيما العنصر الأنثوي وتكريس نزعة الاستهلاك والتنافس المحموم على الكماليات واللهاث خلف الظهور والشهرة وإشاعة ثقافة الفرجة واستسهال الكسب السريع ولو على حساب الكرامة الانسانية التي عكفت الفلسفة- للآلاف السنين- على التأصيل لها قانونيا واجتماعيا، وسعيها المستميت لتحرير البشرية من نير العبودية التي باتت تتخذ صورا وأشكالا جديدة في عصرنا الحالي، فالسيد والعبد يمكن تشخيصهما دون أدنى جهد في المعروض على المواقع الاجتماعية.
وبما أن مؤسسات وأقطاب إعلامية وسياسية عالمية مالكة لهذه المنصات، وهي من أسست ورسمت وخططت لهذا التهاوى والانحدار، فعملية التصدي لها تكاد تكون عسيرة، فمالكو المواقع الاعلامية الجماهيرية اليوم لديهم قدرات وامكانات تقنية ومالية لا تضاهى، وأن الربح وإدارة العقول في أعلى سُلم أولوياتهم ورُتب أهدافهم، لذلك لم يعد بالامكان سوى التوجه ومخاطبة الإعلام المؤسسي سواء العام المملوك للدولة أو الخاص، لإحياء الفلسفة وتبني مناهجها وخطابها لا سيما على المستوى النقدي، من خلال بث الحياة إعلاميا في مفاهيمها ونشرها وتضمينها في القصص الإخبارية والمواد البرامجية، والتأكيد والتركيز على القيم الانسانية ومبادئ حقوق الانسان والحرية المسؤولة والحد من التفاوت الطبقي والتباين الاجتماعي ورفض امتهان الكرامة الانسانية والمتاجرة بها، كذلك تخصيص برامج لاستضافة قادة الفكر والفلسفة للاستماع إلى آرائهم بشأن الظواهر الشاذة والضارة ومنحهم المساحة في ممارسة دورهم الاجتماعي وإطلاع الجمهور على المدارس الفكرية والفلسفية الراهنة ومناقشتها ونقدها أمام الرأي العام.
وبهذا فالفلسفة تمتلك طاقة لشحن الاعلام بالمفاهيم والرؤى والتصورات وتعضيد دوره في المجتمع الانساني، وبدوره يسهم الاعلام في احاطة الجمهور العام غير المتخصص بالتيارات الفكرية والفلسفية الفاعلة على الساحة الدولية، من منطلق أن الفكر والمعرفة هما من يتصدان للادوار القيادية اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، ومن مخرجاتهما العناصر المادية الأخرى، كما ويرسمان المشهد الحضاري في كل حقبة تاريخية عاشتها البشرية على مر العصور. إن المناخ الاعلامي اليوم ملبد بسُحب الدعاية أكثر من الاعلام والإخبار، وبالتزييف والتضليل أكثر من الحقيقة، وبالرأي أكثر من الخبر، وبالسطحية أكثر من العمق، وبالتأطير والتحيز أكثر من الحياد والشفافية، وأن الانسان/ المشاهد وقيمه وخصوصيته الثقافية والهوياتية، باتت خارج حسابات ماكنة الإعلام، بل أصبحت تعمل على سحقها بكل ما أوتيت من قوة. فلم يبق أمام الاعلام المسؤول- في مواجهة إعلام البازار- سوى استدعاء الفلسفة واشراكها في مهمة جعل الانسان ومصالحه وقيمه وكرامته محور الرسالة الاعلامية، عبر توظيف واعٍ ومبتكر ومدروس.