أدلّة على توحش الطغاة
كتب / د. صادق كاظم
كان المنظر صادما وموجعا، حين انتشلت الجرافات وبعد أيام قليلة من سقوط النظام المباد من أعماق الصحراء الآلاف من المقابر، التي كانت تأوي أجساد الضحايا، الذين طحنتهم آلة قمع النظام بشكل متوحش وهمجي ، اذ اقتيد الضحايا، وهم لا ذنب لهم من منازلهم ومن الشوارع والطرقات وبأوامر من المجرمين من أعوان، وأركان النظام الذين أرسلهم إلى محافظات الجنوب في عمل انتقامي وثأري من سكانها
الذين شهدت مناطقهم أوسع وأكثر انتفاضة شعبية وأهمية وجرأة في التأريخ السياسي الحديث للبلاد، حيث كانت التهم معلبة وجاهزة بحقهم، وهي معارضة النظام والاشتراك في الانتفاضة المسلحة، وبدلا من أن يعترف النظام بأخطائه ويعتذر عن سياساته، ويعمل على إصلاحها ومراجعتها، أرسل فرق الموت مدججة بالمدرعات والطائرات والصواريخ، لتقتحم تلك المدن وتعمل على إبادة سكانها، حيث كانت الاوامر صريحة بإعدام أي شخص يتم إلقاء القبض عليه، اذ توزع الأعوان المجرمون لينفذوا أكثر المهام إجراما وانحطاطا في التاريخ، بل إن الأضرحة المقدسة لم تسلم بدورها من قصف الصواريخ والمدافع التي أحالتها إلى ركام.
اسهم التردد الاقليمي والدولي وعدم الرغبة باسقاط النظام أو دعم الانتفاضة الشعبية في منح النظام الفرصة والغطاء والدعم، ليقوم بارتكاب تلك المجازر الضخمة التي تضاهي في جرائمها ووحشيتها ما جرى من مذابح الإبادة الجماعيَّة في راوندا 1994 ومعسكرات الموت والقتل في كمبوديا في سبعينيات القرن الماضي.
تلك المجازر جرت وحصلت بأوامر مباشرة من قبل الطاغية بإعدام أكبر قدر ممكن من سكان المناطق التي يدخلونها، حيث تم نقل الأهالي وبسرعة كبيرة، من خلال شاحنات إلى أعماق الصحارى، ليدفنوا وهم أحياء في مقابر جماعية أعدت لهم سلفا، اذ اعدم بعضهم رميا بالرصاص بينما دفن القسم الآخر حيًّا من دون رحمة، وبشهادات الناجين القلائل منها أو ممن شاركوا فيها من قبل الجلاوزة، الذين اختلفوا مع النظام من بعدها. المقابر التي تم اكتشافها في حينها نقلت صورا مؤلمة فإحدى الضحايا وهي طفلة كانت تمسك بلعبتها الصغيرة، بينما كان هناك رجل كبير في السن دفن مع عصاه التي كان تعينه على السير، وفي المشهد ايضا رجل بكامل ملابسه العسكرية، يبدو أنه كان عائدا إلى صفوف وحدته، قبل أن يقتاده الجلاوزة إلى حتفه ومنظر آخر لجثة امرأة مسنة وجدت معها مفاتيح منزلها، الذي اقتيدت منه عنوة على أمل أن تعود اليه، لكنها دفنت مع تلك المفاتيح.
لم يكتف النظام بقتل الضحايا واعدامهم بتلك الصور المشينة والهمجية، بل اقتاد عددا كبيرا آخر من المعتقلين إلى سجونه السرية في منطقة القصور الرئاسية في الرضوانية، حيث كان الأعوان والجلاوزة من المقربين من الطاغية، يقيمون حفلات التعذيب والقتل اليومية بحق الضحايا الأبرياء، اذ قتل عشرات آلاف منهم بتلك الطريقة المؤلمة، بل إن ابن الطاغية عدي خرج ذات يوم متباهيا بأنهم يعصرون رأس أي معارض بآلات حديدية، اذا وقف يوما بوجه النظام أو عارض توجهاتهم الإجرامية في رسالة صريحة وواضحة.
خطب الطاغية يوما يصف الضحايا بالمجرمين وأنه أعدم مسؤولا ذات مرة في إحدى المحافظات، لأنه كان يطلق النار فوق رؤوس المتظاهرين وليس نحو صدورهم، وانه يتباهى باجتثاث هذا العدد الكبير من الضحايا، الذين وصفهم بالخونة والعملاء.
النظام البعثي يمتلك ماضيا بشعا وسوابق في الإجرام والتوحش، عندما نجح في انقلابه المدعوم من قبل أجهزة المخابرات الامريكية والبريطانية في شباط من العام 1963 ضد نظام الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، حيث اقتادت عصابات ما كان يعرف بميليشيات الحرس القومي الآلاف من المطلوبين من مناصري الحركات اليسارية، ونظام الزعيم إلى المعتقلات والسجون التي أقيمت على عجل ليتم فيها تعذيبهم وتصفيتهم بطرق غاية في التوحش والهمجية، بل إن اكثرها رعبا قد حدث في قصر النهاية العائد إلى الاسرة الملكية الحاكمة السابقة، الذي اتخذ منه مجرمو حزب البعث مقرا لأكثر الأماكن تعذيبا وإجراما في العالم، حيث صفيت وعذبت فيه الآلاف من الكوادر الوطنية بتهم ملفقة.
هذه المسيرة الحافلة بالإجرام التي برعت فيها دولة العرفاء أمثال علي حسن المجيد وحسين كامل وكامل ياسين ومزبان خضر هادي وسواهم، إنما تمثل انحطاط تلك الدولة، التي تم اختطافها من قبل عصابات القرويين في العوجة، الذين قاموا بالسطو على السلطة واقتحام القصر الجمهوري في ليلة تموزية سوداء، بالاستعانة بعملاء المخابرات الأمريكية ممن أوكل اليهم الرئيس السابق عبد الرحمن عارف ثقته لحماية نظامه، ليفتتح منذ ذلك اليوم عهدا مليئا بالدماء والعنف والإرهاب والحروب، التي أضاعت من عمر العراق سنوات كانت كفيلة بتحويله إلى دولة عملاقة ومزدهرة، قبل أن يجهز طاغية العصر عليها ويحيل انجازات من سيقوه إلى ركام واطلال. خارطة المقابر الجماعيَّة انتشرت على مساحات واسعة من البلاد بدءًا من حلبجة، التي ارتكب فيها النظام ولأول مرة في التاريخ جريمة قصف منطقة بسكانها بالسلاح الكيمياوي، ومن ثم عمليات الانفال التي قتل فيها أكثر من ربع مليون مواطن كردي هجروا من منازلهم واقتيدوا إلى اماكن مجهولة في اقصى جنوب العراق ليقتلوا هناك، ويتم اخفاء جثامينهم قبل أن تتسيد جريمة إعدام الضحايا بعد انتهاء الانتفاضة الشعبانية، المشهد بهذا الكم الهائل من الضحايا والقبور الجماعيَّة التي تم اكتشافها.
ستبقى هذه المقابر وصمة عار في جبين نظام البعث وشاهدا ناطقا على همجية هذا النظام وتوحشه واستبداده، الذي فاق كل من سبقوه من طغاة ومجرمين ممن اقتدى بسيرتهم الإجرامية، ليتخذ منها منهجا عنفيا ودمويا لحل مشكلاته وازماته التي لم تؤدي إلى حماية النظام وضمان استمراره، بل قوضت أسسه وبنيانه وأدت إلى تهاويه وسقوطه في النهاية، ولينتصر الضحايا بدمائهم وتضحياتهم على بنادق الطغاة وإجرامهم.