المناورة في الخطاب السياسي الأمريكي
كتب / د. محمد وهاب عبود
كلما زاد حجم المتابعة لتصريحات المسؤولين الأمريكيين تجاه الأحداث في غزة، تتسع فجوة الاستغراب وتتعمق هوة الحيرة والعجب، وليس المقصود هنا من فداحة التواطؤ والتراخي الأمريكي إزاء القتل العشوائي والممنهج الذي يمارسه الكيان الصهيوني بحق المدنيين الفلسطينيين، فسبب هذا النهج معروف للقاصي والداني، إنما الغرابة تكمن في الخطاب الأمريكي المتعاطي مع الحدث والمرتكز على أسلوب المراوغة الغارق في التناقض المكشوف والمفضوح
إذ يستولي عليك شعور بأن المسؤولين في البيت الأبيض باتوا يتصورون الجمهور المتابع لمؤتمراتهم الصحفية أشبه بأطفال وهم يصغون إلى حكاية.
في المساء تنتقد الإدارة الأمريكية قصف الكيان الصهيوني لأهداف مدنية، وفي الصباح ترسل له شحنات الأسلحة وتمده بمليارات الدولارات وتحرك البارجات وحاملات الطائرات لحمايته.
يصف المؤلف الامريكي ديل كارنيجي المناورة السياسية بأنها فن تحقيق ما تريد دون أن تجعل الآخرين يشعرون بأنهم قد تم التلاعب بهم. فقد عُرف عن الولايات المتحدة بأنها الدولة الأكثر نشاطا في استخدام استراتيجية المناورة في السياسة الداخلية والخارجية، ويعود الفضل في ذلك، إلى اهتمام علمائها اللغويين وفلاسفتها بدراسة اللسانيات واستعمال اللغة في الخطاب، ففريق المستشارين في البيت الأبيض على دراية واسعة بعملية توظيف التكتيكات اللفظية في التصريحات الإعلامية من اجل تحقيق غرض سياسي.
وبلا ريب، أن استطلاعات الرأي العام المحلي والعالمي التي تجريها المؤسسات البحثية الأمريكية قد نقلت إلى صانع القرار الأمريكي صورة عدم رضا طيف دولي واسع عن التسليح الأمريكي لقوات الكيان الصهيوني وإعاقة جهود مساءلته ومحاسبته في المحاكم الدولية، لذا عمد البيت الأبيض، وكالعادة، إلى استحضار استراتيجية المناورة بهدف تهدئة الرأي العام الدولي وامتصاص غضبه المتصاعد، غير أنه أخفق هذه المرة في تمرير التكتيك الخطابي، لاعتماده على التضليل والتمويه والتلاعب والتناقض بشكل علتي وصريح، فجاء بنتائج عكسية وزاد من حدة الانتقاد لسلوكه السياسي وضاعف من الدعوات المطالبة إياه بالضغط على الكيان الصهيوني لوقف المجازر بحق المدنيين والكف عن دعمه ماليا وعسكريا.
ومن بين الأسباب التي أدت إلى اندلاع شرارة الاحتجاجات الطلابية في عدد من الولايات وبجامعات النخبة على وجه التحديد، الفشل الامريكي في توظيف أسلوب المناورة بطريقة مقنعة، إذ ذكر أحد اساتذة جامعة نيويورك ممن تم فصله من الوظيفة بسبب مواقفه المناهضة للحرب على غزة، بأنه يشعر بالاشمئزاز عند تحدث المسؤولين عن حرية التعبير وحقوق الانسان.
إن الشخص المتابع للموقف الأمريكي بشأن أحداث غزة لا يحتاج إلى أن يكون متخصصا في تحليل الخطاب أو على قدر عال من المعرفة اللغوية، لأن جيل الشباب اليوم أصبح أكثر انفتاحا وفهما لمجريات الأحداث التي يعيشها العالم، وذلك بفعل عوامل عديدة، لعل أبرزها مواقع التواصل الاجتماعي التي أسهمت صورها الحية والفورية بإزاحة الغموض عن ملفات وقضايا عديدة، مقابل وسائل إعلامية ممولة من الكيان الصهيوني أو ارتباط مصالحها بوجوده سعت إلى حجب الحقيقة وتزييف الواقع.
وسنقتبس ثلة من تصريحات أرفع المسؤولين في الإدارة الأمريكية تؤكد ما تم ذكره، إذ يقول منسق اتصالات مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي: «واشنطن ستوقف إرسال أنواع معينة من الأسلحة إلى إسرائيل إذا نفذت قواتها عملية برية واسعة في رفح».
بمعنى أن واشنطن ستمتنع عن إرسال فقط «أنواع معينة» من الأسلحة في حال نفذ الكيان الصهيوني عملية برية واسعة. وإذا كانت العملية غير واسعة سنقدم كل الأنواع. وفي تصريح سبقه بيومين يقول كيربي نفسه إن واشنطن لن تتخلى عن إسرائيل.
أما وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن فقد صرح بأنهم، أي الإدارة الأمريكية، لا يريدون أن تشن إسرائيل هجوماً شاملاً على رفح، ولكن ليس لديهم أي «خطوط حمراء» في ما يتعلق بإسرائيل.
إن استدراك السيد بلينكن سهَّل على الكثيرين مهمة كانت عسيرة في السابق تتمثل بتحليل النص الدبلوماسي والكشف عن دوافعه واهدافه.
قائمة التصريحات كثيرة ويصعب حصرها، لكنها دليل ناصع على صدأ أساليب الخطاب السياسي الأمريكي، وسقوطه في مستنقع التناقضات، وعلى الأرجح سيشكل هذا السقوط هزة عنيفة لسمعة الولايات المتحدة ومكانتها الدولية في عالم يصفه الفيلسوف اليوناني هرقليطس بأن الشئ الوحيد الثابت فيه هو التغيير المستمر.