العرب: غيبوبة أم فقدان للروح
كتب / زهير كمال
هو سؤال يتردد دائماً عندما يشاهد الناس على الهواء مباشرة مجازر الاحتلال الاسرائيلي وهي تفتك بالمدنيين وخاصة بالأطفال والنساء، يصرخ الناس عندما يشعرون بالإحباط: اين العرب؟ الا يشعرون بما يجري في فلسطين؟ لماذا لا يتحركون؟ هل فقدوا روحهم؟ هل هم موتى؟ تردد سؤال مؤخراً: العرب غير موجودين ولكن أين طلاب الجامعات ألم يشعروا بالغيرة من نظرائهم الأمريكان والأوروبيين؟
أسئلة هدفها الطلب من الشعوب أن تشعر بما يجري حولها فتتحرك لتغيير الوضع القائم.
هذا المقال محاولة للإجابة عن سبب عدم تحرك الشعوب خاصة في وقت الأزمات.
من منا لا يذكر امرأة عمورية التي تعرضت للإهانة والسجن من جند الروم فاستنجدت بالمعتصم ، نادته صارخة وامعتصماه! وصل النداء الى الخليفة العباسي في بغداد، بعث رسالة على إثرها الى أمير عمورية قائلاً: من أمير المؤمنين إلى كلب الروم أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي. وقد فعل.
دخلت هذه الحادثة التاريخ، واستقرت في الوعي الجمعي للشعوب أنهم يستطيعون الاعتماد على الحاكم في أن يتخذ القرار المناسب وأن يحمي الناس من الأعداء وأن يصون الحمى.
ما يحدث على أرض الواقع في العصر الحديث أنه لا وجود لمعتصم يلبي نداء الملهوفين الذين يتعرضون لمآسي أشد فظاعة من مأساة امراة عمورية. ومع هذا فالناس ما زالت في الانتظار.
هنا يبرز سؤال: ما الذي يحرك الجماهير؟ لاحظنا حركة الجماهير التونسية كرد فعل لفعل مستهجن من أحد أبنائها، أصاب اليأس محمد بوعزيزي لعدم قدرته على إعالة أسرته فأحرق نفسه. قتل النفس في المجتمعات العربية نادر إذ أنه مخالف للدين الإسلامي ومن أعظم الذنوب ومن أكبر الكبائر.
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ( الإسراء 33).
لاحظنا ذلك في رد فعل الجماهير المغربية بعدما لحق محسن فكري بأسماكه المرمية في شاحنة النفايات وقام ممثل السلطة بتشغيل ألة الطحن، فطحنتهما معأ.
في الحالة المصرية كان خبر مقتل الشاب خالد سعيد بعد تعرضه للتعذيب على يد الشرطة سبباً في إشعال ثورة يناير.
ما سبق هي الأسباب المباشرة لمعاناة طويلة أشبهها بالماء المغلي داخل طنجرة الضغط الموضوعة على النار، تنفجر فتخلع الغطاء وينتثر الماء المغلي فيحرق ما حوله.
هل يمكننا الغوص عميقاً ونبحث عن أسباب خفية لا تظهر على السطح؟ كأن نبحث في الشخصية العربية كيف تشكلت وما هي ظروفها الحالية؟
مرحلة الروح: (754 – 1504)
يمثل العطاء الفكري والأدبي والعلمي روحاً لأية أمة، وفي الحالة العربية استمر العطاء الحضاري للعرب فترة 750 عاماً، وهي ضعف فترة الحضارة الإغريقية، نقل العرب فيها الإنسانية درجة على سلم التطور، ولمن يريد زيادة معلوماته عن هذه الفترة يمكنه الاطلاع على كتاب (شمس العرب تشرق على الغرب للكاتبة الألمانية سيغريد هونكة ( 1913- 1999)، ولعل أفضل اقتباس من هونكة قولها (أقبل العرب على اقتناء الكتب إقبالاً منقطع النظير، يشبه إلى حد كبير شغف الناس في عصرنا باقتناء السيارات والثلاجات وأجهزة التلفزيون.).
وعبر عن ذلك المتنبي عندما قال:
أعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ
كانت المكتبات العامة منتشرة في كل المدن العربية ففي القاهرة مثلاً كانت المكتبة تحتوي على مليون ومائتي ألف كتاب ومجلد أما الحكم الثاني في الأندلس فقد جمع في مكتبته نصف مليون كتاب. وعندما بنى نصر الدين الطوسي مرصده الجوي جمع في المكتبة الملحقة بالمرصد أربعمائة ألف مجلد.
مرحلة الاحتضار الطويل: (1504 – 1299 – 1923) ميلادية
مع الانحطاط السياسي الناتج عن ضعف الخلافة المركزية في بغداد والأندلس وانقسام الدولتين الى إمارات صغيرة متنازعة بدأت مرحلة الاحتضار الطويل بتوقف الإنتاج المعرفي، تلا ذلك مرحلة الحكم العثماني الذي جعل من اللغة العربية لغة طقوس وعبادات فقط ثم حاول تتريك الشعوب العربية في آخر فترة من هذا الحكم.
أصاب الجمود كل مناحي الحياة ودخلت المجتمعات العربية مرحلة الموت السريري أو الغيبوبة. ومثلما يقطع السكين الحاد قالب الزبدة تم تقطيع المنطقة العربية وتقسيمها بين بريطانيا وفرنسا ، وبينما كانت أوروبا في قمة التطور بعد الثورة الصناعية، كانت المجتمعات العربية في قمة الجمود والانحطاط.
على سبيل المثال عندما تزور أي مدينة عربية في العام 1504 م ثم تزورها في العام 1923 أي بعد خمسمئة عام لا تجد أية تغيرات جوهرية في هذه المدينة بل إن حالها ازدادت سوءً، أما في الصحاري فالمدة تزيد عن ألف عام .
يشبه ذلك وضع مجتمعات بأكملها داخل صندوق مغلق، يولد الناس ويكافحون من أجل البقاء ثم يموتون، بتكرار ممل دون روح .
هل حدثت تغييرات جوهرية داخل الصندوق خلال هذه الفترات الطويلة؟
يحضرني هنا مثل الشيخ النجدي محمد عبدالوهاب ( 1703 – 1792 م )الذي حاول إصلاح الدين الإسلامي بعد أن دخلته الشعوذة والسحر. ولكنه لم يهتم بإدخال تغييرات جوهرية على مجتمع الجزيرة العربية رغم تبني السلطة الحاكمة لنهجه، كيف له أن يعرف وهو لم يغادر الجزيرة العربية وما حولها ( البصرة).
على أي مفكر أن تتاح له فرصة لتوسيع أفقه بمعرفة ما يجري حوله ثم يقارن ما هو موجود أمامه وما هو موجود خارج الصندوق، وبهذه الطريقة يستطيع تقديم أفكار جديدة تفيد مجتمعه.
فيما يلي نبذة مختصرة عن محاولات كسر الصندوق والخروج منه.
مرحلة وخز الإبر في الجسم الميت سريرياً:
في بدايات القرنين التاسع عشر والعشرين برزت أسماء مصلحين أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده ، ما جمع هؤلاء سفرهم الى العواصم الأوروبية وبخاصة باريس. بدأت المطبعة التي تركها نابليون في مصر تعمل بقوة ناشرة أفكار الذين جاءوا من أوروبا تبين لهؤلاء المتعلمين الذين يعيشون في المدن الكبرى حقيقة وضعنا في هذا العالم ومحاولة لاستنهاض الهمم.
يصدق المثل القائل ( كلنا في الهم شرق ) على وضع طوائف المجتمعات كافة ، فالمسيحيون لم يكونوا اسعد حالاً من المسلمين في العالم العربي. جاء الفرج لكافة الطوائف من هؤلاء الذين هاجروا بدوافع اقتصادية من لبنان الى الأمريكتين ، ابدع أدباء المهجر أمثال جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة رشيد الخوري وشفيق المعلوف وإيليا أبي ماضي في نشر المعرفة وتوعية الناس.
مراحل اليقظة ( 1952- الوقت الحاضر)
أ. المرحلة الناصرية ( 1952 – 1977)
لا يمكن إيقاظ الجسم الميت إلا إذا تخلص هذا الجسم من القيود التي تجره الى مزيد من الغيبوبة، وهي تحكم الأجانب في مقدراته، وكانت المرحلة هي مرحلة التخلص من الاستعمار المباشر، خاضت مصر الناصرية حروباً كثيرة وهي تساعد بعض أعضاء هذا الجسم للخلاص من المستعمر. ورغم أنها رفعت شعار التخلص من الرجعية العربية إلا أن هذه الرجعية كانت أقوى بعد أن جاءها الدعم من بيع النفط المكتشف في دولها.
قال عبدالناصر: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد ، فتفتحت زهور كثيرة في الشرق وبدأ الإنتاج المعرفي في أماكن كثيرة من الوطن العربي، انتشرت مقولة ( القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ) وهي توضح فعلا ما جرى في تلك الفترة، نشرت كتب كثيرة تعادل أضعافاً مضاعفة لما نشر في مرحلة الاحتضار الطويل ، بخاصة وأنه في مرحلة الاحتضار ماتت مهنة هامة وهي مهنة الوراقين الذين كانوا ينسخون عدداً غير محدد من النسخ من كل كتاب.
قدم عبدالناصر الاشتراكية للعالم العربي ولكنه لم يقدم الديمقراطية ، خوفه أن يرجع للحكم أتباع النظام السابق من باشوات وباكاوات خاصة أنهم يمتلكون الثروة والعلم ودعم الغرب، حاول تطبيق ديمقراطية مركزية واشترط وجود 50% من العمال والفلاحين في كل المجالس بما فيها مجلس النواب. نسي عبدالناصر أن نهج الحكم الذي لم يتغير منذ 14 قرناً يتيح للحاكم المطلق إدارة الدولة وتوجيه دفتها كما يشاء. وهكذا انقلب السادات على كل التوجهات الناصرية وقام في العام 1977 بوضع معظم مثقفي مصر في السجون تمهيداً لتوقيع اتفاقية كامب دافيد ، هذه الاتفاقية التي ثبتت الوجود الإسرائيلي في المنطقة ومكنتها من نهش الجسد المريض الذي حاول النهوض من الغيبوبة الطويلة.
في المقابل نجد الهند وماليزيا ( كدولة إسلامية) قد طبقتا الديمقراطية الحقيقية ، أصبحت الهند قوة نووية ترسل صواريخها الى القمر وأصبحت ماليزيا إحدى النمور السبعة في آسيا، بغض النظر عمن حكم في البلدين سواء من اليمين أو اليسار.
تغيرت الظروف السياسية في العالم العربي وسيطرت الرجعية العربية ومفاهيمها وحلفها مع الغرب على الجسد العربي.
من الطريف أن نذكر أنه في إحدى السنوات كان الإنتاج المعرفي في العالم العربي قاطبة 8000 مخطوطة مقابل ثلاثمائة ألف مخطوطة في الولايات المتحدة.
توقف زخم الإنتاج المعرفي في العالم العربي وبدا أن مرحلة الغيبوبة ستستمر الى فترة طويلة.
ب. اليقظة الثانية (2023- الوقت الحاضر)
في مرحلة الغيبوبة الجديدة المتجددة كاد الجسم العربي أن يموت، من مظاهر ذلك تحلل عدة دول الى فتات متصارعة مثل الصومال والسودان وليبيا وسوريا وتم ابتلاع الضفة الغربية وتهديد مصر بهبتها النيل، وانتشر السرطان الإسرائيلي ينهش الجسم العربي.
انطلق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر ليقلب الطاولة على هذا الوضع، كأنه يقول للعالم : نحن هنا ، نحن لا نموت، سننتصر. تلقف حزب الله الدعوة وبدأ في اليوم الثاني معركة الإسناد القوي لفصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس. تلا ذلك أنصار الله في اليمن والفصائل العراقية ولا شك في أن الدعم السوري والإيراني كان عاملاً حاسماً في التسليح والتجهيز لبدء الطوفان.
في هذه العجالة مواصفات قوى اليقظة الجديدة:
كافة القوى المشاركة على الأرض والتي تتصدى لإسرائيل هي قوى إسلامية وطنية وهي قوى من طوائف مختلفة، وقد أسقطت الى الأبد التقسيم الطائفي الذي عمل الغرب وأعوانه على تغذيته وتعميقه تحت تخويف السنة من الهلال الشيعي وغيره من المسميات.
أن القوى المشاركة هي قوى شعبية وليست أنظمة، في الحالة الفلسطينية مثلاً هناك سلطة فلسطينية معترف بها عالمياً، في الحالة اللبنانية ، حزب الله هو مجرد حزب ضمن تشكيلة متعددة من الأحزاب والتيارات، في الحالة اليمنية، رغم سيطرة أنصار الله على شمال اليمن إلا أن الحكومة المعترف بها عالمياً هي الحكومة الموجودة في الرياض.
ان القوى المشاركة هي قوى ديمقراطية تقبل بالآخر، في الحالة الفلسطينية نجد تعدداً في الفصائل المقاتلة سواء في غزة أو الضفة ونجد أيضاً سلطة محمود عباس التي تنسق مع الاحتلال. في لبنان يحاول حزب الله أنتخاب رئيس للدولة لا يطعن ظهر المقاومة ولم يستطع حتى هذه اللحظة تحقيق ذلك، في الحالة اليمنية تقوم حكومة الخارج التي تسيطر على البنك المركزي بدفع رواتب الموظفين في الجمهورية.
القوى المشاركة هي قوى مبدئية لا تتنازل عن أهدافها وتتمتع بالذكاء والقدرة على المناورة ولا ترعبها قوة الخصوم ، فمن المعروف أن الجيش الإسرائيلي هو من الجيوش التي يحسب لها حساب بين جيوش دول العالم. ومع هذا فقد ألحقت به هذه القوى خسائر فادحة ولن يفيق من دوخته لمدة طويلة. بينما نجد أن أنصار الله تصدوا باستهداف أساطيل الولايات المتحدة في المنطقة والتي لم يستهدفها أحد من قبل.
حقق أنصار الله ما لم يستطع عبدالناصر القيام به وهو إغلاق البحر الأحمر أمام الملاحة الإسرائيلية، بل إنهم يستهدفون هذه الملاحة بشكل عام ، بينما انتصرت إسرائيل في العام 1967 على ثلاثة جيوش عربية خلال ستة أيام نجدها تستعين بحلفائها في الغرب للتصدي لهذا الموضوع دون جدوى، وهذه هي المرة الاولى التي يوظف فيها العرب الجغرافيا لمصلحتهم.
رغم أن القوى المشاركة في حالة هجوم إلا أننا نجد تاييداً من شعوب العالم للقضية التي يحملونها، وهذه أول مرة يتحقق فيها ذلك.
النتائج والتوقعات:
انكشفت الصهيونية على حقيقتها ، كم هو هش هذا البعبع الذي يخيف الأنظمة العربية ، ثبت أنه ليس أكثر من نمر من ورق يعتمد على التهويل والدعاية لتسويق قوته، صدق حسن نصر الله عندما وصفه قائلاً: ان اسرائيل اوهي من بيت العنكبوت، وهذا ما يقوم بإثباته كل يوم على مدى ثمانية اشهر.
يتحقق لدى شعوب العالم أن الصهيونية ما هي الا انحراف خطير عن مجرى التطور الانساني وهي أسوأ من النازية إذ تعتمد على تفوق الدين والعرق وتعتبر باقي الأجناس غوييم (غاوين من الغيّ والضلال) أو جنتايل أو بتعبير أدق حيوانات بشرية.
قد تتوقف الحرب في غزة لفترة قصيرة نظراً للضغط العالمي ولأهداف شخصية لرئيس الولايات المتحدة الذي يريد هدوءً لإعادة انتخابه، وستقبل فصائل المقاومة بهذا التوقف، فالمعاناة الشديدة لأهل غزة أكثر من أن توصف بكلمات بسيطة ولكن أشدها استعمال العدو لسلاح التجويع، والنصوص المطروحة الآن تنص على إدخال 600 شاحنة يومياً الأمر الذي سيخفف هذه المعاناة عن هذا الشعب الصابر.
ما سيحدث بعد ذلك أن إسرائيل ستعتقد أنه يمكن التفرغ للجبهة اللبنانية وسحق حزب الله، وهذا الأمر سيشعل كافة الجبهات مرة أخرى. كما أن المكاسب الاستراتيجية مثل إغلاق البحر الأحمر والتي حققتها القوى المشاركة لا يمكن التخلي عنها بسهولة .
أما بالنسبة للعالم العربي فسنشهد تغييرات جذرية في أنظمة الحكم العميلة والمتواطئة مع الصهيونية ولكن قد يحتاج الأمر بعض الوقت فقد استغرقت الغيبوبة طويلاً .
النصر دائماً للشعوب والفجر قادم.