النظام العالمي العنصري وطوفان الأقصى
كتب / د. ماجد العبلي
وفقا لنظرية النظام العالمي الحديث، للعالِم: إيمانويل فلرشتاين Wallerstein، والتي تعد تطويرا أو استكمالا لنظرية لينين (المركز والأطراف)، فإن بنية النظام الدولي الحديث تتكون من ثلاث دوائر على النحو التالي:
الأولى: دائرة مركز النظام أو نواته، ووظيفتها الهيمنة والسيطرة والتحكم، وتمثل قمة هرم هذه البنية، وتتكون من الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة (بريطانيا)، وفرنسا، وألمانيا، واليابان، وإيطاليا، وكندا) والتي تدعى بـِ “السبع الكبار (G7)” والتي تحتكر معظم الاقتصاد العالمي وتتحكم به؛ كما تحتكر معظم النفوذ السياسي والعسكري والتكنولوجي والمعرفي والفكري والثقافي العالمي الطاغي والمهيمن.
الثانية: وتسمى دول شبه الأطراف وتتكون من الدول شبه الصناعية ذات الاقتصادات الصاعدة ومنها بعض الدول الأوروبية ودول جنوب شرق آسيا وبعض دول أمريكا الجنوبية، ووظيفتها ضمان استقرار البنية الدولية المشار إليها، حيث تمتص الاهتزازات التي قد تنشأ في دول الأطراف.
الثالثة: وتسمى دول الأطراف وتتكون من الدول غير الصناعية وذات الاقتصادات الصغيرة، ووظيفتها تزويد مركز النظام بالمواد الأولية والفوائض النقدية، كما تمثل أسواقا للمنتجات الصناعية، ومكب نفايات لدول المركز إلى غير ذلك من الوظائف الخاصة.
هذه البنية تقوم إذن على تقسيم العمل الدولي الجائر، حيث تحاكي آلية “الظاهرة الإسموزية المعاكسة”، إذ تمكن هذه البنية دول المركز من الضغط على باقي مناطق العالم (وخاصة دول الأطراف) لضمان تدفق الأموال والموارد للمركز؛ الأمر الذي يضمن للمركز الثراء المتنامي والنفوذ المهيمن المتزايد على حساب استقرار الفقر أفقيا وعموديا في دول الأطراف؛ الأمر الذي يضمن دورانها السرمدي في إطار وظائفها المرسومة.
وعند التأمل في سلوك حكومات دول المركز على مدى خمسة عقود مضت على الأقل؛ فإنه يمكن الاستنتاج أنها تستبطن فكرا استعماريا عنصريا يسعى لضمان سيادة وتفوق ورفاه الرجل الأبيض على حساب عذابات شعوب الأرض كافة.
وككل بنية فإن النظام الدولي الجائر هذا سعى لزرع أذرع له في كل أقاليم العالم (جنوب شرق آسيا، وسط آسيا، أمريكا الجنوبية.. إلخ) للقيام بوظائف الإنذار المبكر والتدخل السريع لحراسة مصالح مركز النظام والقيام بالمهمات القذرة التي تحفظ أمن النظام وثباته والحيلولة دون نشوء قوى مناوئة أو منافسة له.
ومن أهم هذه الأذرع الكيان الصهيوني المحتل الذي زرعته دول المركز في قلب الوطن العربي واستثمرت فيه على مدى أكثر من سبعة عقود مضت أمثل استثمار، حيث حقق لها عوائد هائلة جدا؛ ما جعل هذا الكيان أكبر استثمار لدول المركز، لا سيما أن الطبقة السياسية المسيطرة فيه والنخب من “العرق الأبيض”.
ونظرا للدور الحيوي الاستراتيجي المتنامي الذي ما فتئ يقوم به الذراع الصهيوني، منذ تم زرعه في قلب الأمة العربية، في حراسة مصالح دول المركز لا سيما الولايات المتحدة؛ فقد صار ركنا أساسيا من أركان تثبيت النظام الدولي الجائر، بحيث إذا انهار؛ فقد يتصدع النظام برمته، وخاصة في ظل تنامي تحالف عالمي جديد، تقوده كل من روسيا والصين، يحاول تغيير بنية النظام الدولي القائم، ما يعني أن الكيان الصهيوني أمسى بمثابة “حجر سنمار” في قاعدة بنية النظام الدولي الجائر المعاصر.
لذا فقد ظل الغرب الاستعماري العنصري (دول المركز بقيادة بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة) يقدم الدعم اللامحدود والحماية الكاملة لهذا الكيان منذ إنشائه وحتى اللحظة.
وعندما تعرض هذا الكيان الاستعماري لهزة عنيفة هددت أمنه في العمق بشكل لم يسبق له مثيل في السابع من تشرين الثاني 2023 جراء الهجوم النوعي للمقاومة الفلسطينية المباغت في الداخل المحتل (طوفان الأقصى)؛ فقد انتفضت دول المركز انتفاضة فورية عنيفة مناصرة للكيان بكل مباشرة ووضوح، ودعمت الكيان الصهيوني لإبادة الشعب الفلسطيني في غزة، لدرجة أن الولايات المتحدة قد شاركت في الإبادة الجماعية من ناحية، وعطلت كل الجهود الدولية لوقف هذه الإبادة البربرية دون اهتمام بالقانون الدولي، ودون التفات للرأي العام الأمريكي والدولي الذي بات مناصرا للقضية الفلسطينية من ناحية، ورافضا للبربرية الصهيونية من ناحية أخرى.
الانتفاضة الفورية العنيفة للغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة لمناصرة الكيان الصهيوني المحتل قامت على العديد من الدوافع/ الأهداف، منها:
العمل على حماية الكيان الصهيوني من احتمالية تعرضه للضعف أو التصدع، حيث وظيفته الاستراتيجية تتطلب تفوقه الحاسم الذي لا يقبل الجدل في المنطقة العربية.
توجيه رسالة حاسمة وقوية لكل دول المنطقة بشكل مباشر وصريح، ولكل من روسيا والصين ضمنا، أن دولة الكيان الصهيوني خط أحمر بالنسبة للعالم الغربي لا يمكن السماح بالمساس به تحت طائلة التهديد العسكري الصريح من قبل دول المركز.
محاولة اجتثاث المقاومة الفلسطينية اجتثاثا كاملا، باعتبارها تمثل خطرا كبيرا على أمن الكيان الصهيوني وعلى استقرار بنية النظام الدولي الجائر.
محاولة اجتثاث المقاومة الفلسطينية اجتثاثا كاملا لغايات تصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية، واستكمال مشروع التطبيع العربي الشامل مع الكيان الصهيوني.
توجيه رسالة قوية وحاسمة للشعب الفلسطيني خاصة وللشعوب العربية عامة مفادها أن المقاومة غير مسموح بها البتة.
توجيه رسالة واضحة وحاسمة للشعب الفلسطيني خاصة وللشعب العربي عامة مفادها أن المقاومة خاسرة حكما، وأنها لن تحقق إلا نتيجة واحدة وهي إبادة الشعب الذي تنطلق من لدنه حركة المقاومة.
تأليب الشعب الفلسطيني على المقاومة الفلسطينية من خلال رفع كلفة المقاومة لدرجة لا يمكن للشعب تحملها.
تلقين الشعوب العربية درسا مفاده أن لا تفكروا بقصة المقاومة من الأصل، وأن لا طريق إلا الإذعان للإرادة الأمريكية الاستعمارية والتطبيع مع الكيان الصهيوني.
وككل بنية مهيمنة في التاريخ عمدت إلى شيطنة المعارضة، فإن الغرب الاستعماري المهيمن المعاصر استخدم تهمة الإرهاب سلاحا ضد كل حركة شعبية تحررية مناؤئة له، وبالتالي فقد أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال الصهيوني في قائمة المنظمات الإرهابية؛ لتبيح لنفسها محاصرة هذه المنظمات ومحاولة اجتثاثها دفاعا عن المصالح الاستعمارية الاستراتيجية في المنطقة العربية، الأمر الذي برر لمعظم حكومات العالم دعم الإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال الصهيوني البربري بحق الشعب العربي الفلسطيني في غزة باعتبار هذا العدوان السافر (دفاعا عن النفس!)، علما أن القوانين الدولية لا تمنح قوة الاحتلال حق الدفاع عن النفس لأن الاحتلال نفسه عدوان سافر مستمر، بينما تمنح القوانين الدولية الشعب الواقع تحت الاحتلال الحق كل الحق بالدفاع عن نفسه حتى ينال استقلاله. ولكن الدعاية الطاغية للغرب الاستعماري على مدى عقود طويلة من هيمنته شبه المطلقة على العالم استطاعت تزوير الحقائق؛ حيث جعلت من الاحتلال الصهيوني حقا، ومن المقاومة الفلسطينية إرهابا!
وحيث إن البنية الدولية المهيمنة غالبا ما كانت تجسد الظلم والعدوان بجلاء ووضوح، فإنه على مدى التاريخ نشأت حركات مقاومة، كثير منها تم وأده، وبعضها انتصر، وهذه الانتصارات المتراكمة أدت عبر التاريخ إلى تطور الحياة الإنسانية من التوحش إلى التحضر.
ومنذ الثورتين الفرنسية والأمريكية في القرن الثامن عشر وحتى اللحظة المعاصرة استطاع الغرب الاستعماري أن يفرض قيمه باعتبارها القيم (الصحيحة) التي تجسد (التحضر الإنساني) وتحقق الصالح العام للبشرية جمعاء. وبهذا برر لنفسه استعمار معظم أقاليم العالم.
ولما انتهت صلاحية الاستعمار المباشر فقد زرع في مستعمراته (السابقة) استعمارا غير مباشر يضمن له تكبيلها ومصادرة سيادتها إلى (الأبد). لكنه حافظ على استعمار صهيوني مباشر لفلسطين العربية ليكون أداة لضمان مصالح الغرب الاستعماري في المنطقة.
وردا على هذا الظلم العظيم انتفض الشعب الفلسطيني منذ البدء يقاوم هذا الاحتلال بكل ما أوتي من أدوات مدعوما من الدول العربية والإسلامية وغيرها، لكن الغرب الاستعماري ظل يدعم قوة الاحتلال الصهيوني لتكون القوة الضاربة في المنطقة من ناحية، وظل من ناحية أخرى يفكك الدعم العربي الإسلامي الدولي لكفاح الشعب الفلسطيني حتى وصلنا اللحظة المعاصرة التي تم فيها تحييد العالمين العربي والإسلامي تحييدا كاملا عن القضية الفلسطينية، وشق الصف الفلسطيني، علاوة على إسقاط القضية الفلسطينية من جدول أعمال المجتمع الدولي، وتقزيمها لتكون مجرد نزاع فرعي هامشي.
وبعد شق الصف الفلسطيني وتهميش الأطراف المقاومة خصوصا في غزة ومحاصرتها وتجويعها على مدى عقدين تقريبا؛ فقد كان لا بد للمقاومة الفلسطينية في غزة من أن تنتفض لكسر الحصار الجائر؛ فكان ” طوفان الأقصى”.
في الجولة الأولى لطوفان الأقصى استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تجرح كبرياء الكيان الصهيوني المحتل ومن ورائه قيادة الغرب الاستعماري جرحا عميقا غير مسبوق؛ فكان أن هبَّ الغرب الاستعماري هبة فورية واحدة للانتصار للكبرياء الاستعماري الغربي المتعجرف، والعمل على اجتثاث المقاومة الفلسطينية في غزة خصوصا؛ لإغلاق باب المقاومة في فلسطين خاصة، ولدى الشعوب العربية عموما. ولذا فقد كانت هذه الإبادة الجماعية التي كسرت ولا تزال تمعن في كسر كل القيم الإنسانية جهارا نهارا ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة في ظل صمت دولي مريب.
وبات من المتعارف عليه لدى الكثير من المحللين الاستراتيجيين أن ما يجري ليس معركة في سياق الصراع الممتد منذ العام 1917، وإنما هي حرب تاريخية فاصلة ستتمخض عن نصر استراتيجي لأحد الطرفين. وإنَّ توقف الحرب مع بقاء المقاومة في غزة سيكون نصرا استراتيجيا للمقاومة على الكيان الصهيوني والعالم الغربي الاستعماري. أما النصر الصهيوني فإنه يتطلب القضاء على المقاومة بشكل كامل عبر إبادتها أو استسلامها أو مغادرتها غزة، أو تهجير الشعب العربي الفلسطيني من غزة بشكل كامل، ومن ثم إبادة المقاومة، وهذه سيناريوهات تبدو غير واقعية رغم كل الجراح العميقة، ما يعني أن كفة النصر ترجح لصالح المقاومة الفلسطينية؛ ولذا فإن الكيان الصهيوني وبتوجيه أمريكي يعمل على إطالة أمد الحرب وتعظيم الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين وتدمير كل مظاهر البنيان وحجب كل مظاهر الحياة البشرية كنوع من الضغط على المقاومة حتى ترضخ للشروط الصهيونية، غير أن المقاومة مدعومة بحاضنتها الشعبية ثابتة على أهدافها ومصممة على النصر مهما بلغت التضحيات، حيث ضخامة الخسائر في أرواح المدنيين وفي تدمير البنية التحتية تجاوزت كل الحدود المتخيلة، لدرجة دفعت المقاومة إلى طريق اللاعودة: إما النصر أو الشهادة، الأمر الذي يمنحها موقفا تفاوضيا قويا جدا. ومن حيث أرادت أمريكا والكيان الصهيوني حشر المقاومة في الزاوية لإجبارها على الاستسلام، فإنهم بذلك لم يتركوا لها خيارا سوى القتال ببسالة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وإذا فشل الكيان الصهيوني بكسر المقاومة وتهجير الشعب الفلسطيني من غزة، فإن النصر الاستراتجي للمقاومة سيتحقق بعون الله تعالى.
وإذا كانت أسباب الغياب العربي الرسمي والعجز الشعبي عن التدخل لصالح المقاومة على الصعد كافة معروفة لدى الخاصة سابقا، فقد باتت معروفة للجميع الآن، ولكن اللافت، حسب وليد عبد الحي أستاذ الدراسات المستقبلية والعلوم السياسية في جامعة اليرموك الأردنية، تسلم زمام المبادرة في الساحة العربية من قبل منظمات ما دون الدولة: بعض المنظمات في العراق، والحوثيون في اليمن وحزب الله في لبنان فضلا عن المنظمات الفلسطينية المقاومة (وكلها مصنفة كتنظيمات إرهابية من قبل أمريكا). وفي حال انتصار المقاومة الفلسطينية فإن هذه التنظيمات مرشحة لتسلم السلطة في دول عربية عديدة عبر الانتخابات أو الانقلابات، علاوة على احتمالية نشوء العديد من التنظيمات المشابهة في كل الدول العربية، ولذا فإن هناك تيارات في الساحة العربية تتمنى هزيمة المقاومة…
ومهما كانت نتيجة هذه الحرب، فإن هناك دروسا ستضعها المقاومة (أية مقاومة في الوطن العربي خاصة) نصب عينها وهي:
مبدأ الحيلولة دون وقوع أسرى في أيدي العدو: وهذا معمول به الآن لدى فصائل المقاومة المسلحة، لكن الجديد المطلوب هو ضرورة تسليح الشعب كل الشعب وترتيب تنظيم شعبي ما على مستوى الأحياء مثلا؛ ليدافع كل حي أو كل عائلة أو كل شخص عن نفسه حتى الشهادة أو النجاة أو دحر العدو.
مبدأ حماية الأطفال والنساء وكبار السن من خلال توفير ملاجئ واسعة وخاصة لإيوائهم تتوفر على وسائل العيش لأزمان طويلة.
مبدأ ضمان استدامة الرعاية الصحية من خلال توفير مستشفيات احتياطية في الملاجئ.
مبدأ توفير أسلحة مضادة للطائرات؛ لكسر ميزة العدو.
مبدأ توفير توفير صواريخ ثقيلة بعيدة المدى، لردع العدو وإيلامه عندما تحين اللحظة.
والحديث يطول..