بين العراق وامريكا: اتفاقيات إستراتيجيّة..أم خروقات وتدخلات استراتيجية؟!
كتب / د. جواد الهنداوي||
بعد سقوط النظام العراقي السابق بأيام، نيسان عام 2003 ، سَنحتْ لي الفرصة ان اكتب او اتحدّث لبعض الاخوة السياسيين والقياديين في العراق ، و بعضهم لايزالون ،عن تبعات طرح الثقة في الدور الأمريكي في العراق ، وعن تبعات ما استطيع تسميتهُ ” بالاستسلام السياسي لأمريكا ” .
تبلّورت لدي فكرة ورؤية موضوعية عن استراتيجية امريكا تجاه المنطقة والعراق ، ومصدر هذه الرؤية ليس عملا حزبيا او سياسيا بحتا ، وانما متابعة إعلامية و قانونية لأحداث العراق و المنطقة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تيّسرت لي ،ومن مراجع فرنسيّة رسمية ووثائقية ، بحكم عملي التدريسي في مادة القانون والعلاقات الدولية في الجامعات الفرنسية .
استراتيجية امريكا تجاه المنطقة و العراق قائمة على ثوابت لا تتغيّر بتغير الادارات الأمريكية ، ولا بتغيّر السياسات الموضوعة. الثوابت هي ، مصلحة إسرائيل وهيمنة إسرائيل على المنطقة ،ثابت لا يتغير ، و هو الفلك الذي تدور حوله وتسير بهديه السياسة الأمريكية تجاه العراق و المنطقة . امام مصلحة إسرائيل تسقطُ كل الاعتبارات وتختفي كل المعوقات وتُهدم كل الحواجز . والثابت الآخر هو استمرار هيمنة امريكا على العالم ،بالسيطرة على موارد العالم ، ودوله وشعوبه . ولكل جانب أدواته وسبلُه .فالسيطرة الأمريكية على موارد العالم بالاحتلال والسرقة ،كما يجري في سوريّة ،او بسياسة الدولار ، والسيطرة على دول العالم من خلال سبل تغيير الأنظمة ، و بحجّة الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وتنصيب العملاء ،والسيطرة على شعوب العالم عن طريق وسائل التواصل ، و الاعلام ، والتظاهرات ،والديمقراطية.. الخ.
بين العراق وامريكا اتفاقيات استراتيجية و شراكات استراتيجة ، ولكن كل هذه الاتفاقيات والشراكات لم تجعل منسوب الثقة السياسية بينهما إيجابياً . لا امريكا فهمت واستوعبت العراق ( دولة وشعبا ) ، و لا العراق قادر على ان يسير في السكّة التي تريدها امريكا . فالسكّة التي تريد امريكا ان تسير عليها قاطرة العراق تصلهُ إلى محطة تل ابيب !
ربما يسألُ سائل، لتكن بينهما قواسم سياسيّة مشتركة ، وتصبح العلاقة والأمور وفقاً لهذه القواسم المشتركة ؟
صحيح جداً ، و لكن تسقط كل القواسم المشتركة بضربة قاضيّة من قبل ثوابت السياسة الأمريكية تجاه العراق والمنطقة، واهم هذه الثوابت مصلحة إسرائيل .
لن يتوقعْ العراق من الولايات المتحدة الأمريكية خيراً ،وامرُ وقرار امريكا بيد إسرائيل لوبياتها المتعددة في اروقة المؤسسات الأمريكية ، وخاصة الكونغرس الأمريكي . من حصاد الاتفاقيات و الشراكة الاستراتيجية العراقية – الأمريكية ليس حّلْ ازمة الكهرباء او تحسين القدرات العسكرية العراقية او استثمارات أمريكية او غيرها في الاقتصاد العراقي ، و انما اعتداءات متكررة و اغتيالات ،والشواهد على الاعتداءات والاغتيالات معروفة ،ولا حاجة لذكرها ، وكذلك تدخلات وخروقات لسيادة العراق ،ومواقف من شأنها تقويض السلطات الدستورية للبلد وامنه و استقراره ، و ابقاء العراق في قدرات اقتصادية وعسكرية وسيادية مرهونة و متواضعة ، ولا تتناسب مع ثرواته وحاجاته وتطلعاته .
تتوالى ،الواحدة بعد الأخرى ، افعال و تصرفّات سياسيّة امريكية تجاه العراق ،وتنّم عن روح عدوانية واستصغار للعراق ، وهي من صُنع الصهيونية ،المُهيمنة على الادارة و الارادة الامريكية .فهي (واقصد التصرفات و الأفعال الأمريكية ) في وقعِها اكثر سوءاً من التدخلات ،التي اعتاد العراق عليها ، ويتعايش ،على مضض ،معها .
أصبح ،على ما يبدو ،عُرفاً بأنَّ السياسي او والمسؤول الأمريكي ،والذي يروم النجاح في مهمته في العراق او مساره في امريكا ، عليه أن يُشرّح العراق وينكّل به ويتجاوز على مؤسساته وكرامته . ها هو عضو الكونغرس الأمريكي مايك والتر يتبنى تصريحات تسيء إلى السلطة القضائية في العراق ،ويشكك في نزاهة ووطنية رئيس مجلس القضاء الأعلى ،القاضي فائق زيدان ، ويتهمه وقادة عراقيين ،دون تسميتهم ،بالعمالة إلى إيران .
وقد اعربت وزارة الخارجية العراقية عن رفضها التام للتصريحات و الاتهامات ، في بيان لها بتاريخ 2024/6/29 .
وسبقَ هذا الموقف ، خطاب السيدة تريس جاكوبسون ، امام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي ، والمُرشحّة للعمل سفيرة في العراق ،والذي تناولت فيه ذات الاتهامات ” وهي العمالة لايران ” والحشد الشعبي والفصائل المسلحة.
العراق وشعوب المنطقة ،بل وشعوب العالم ، يعانون من غباء وتهّور السياسات الأمريكية المرتهنة للصهيونية والإمبريالية والاستغلال واثارة الفتن والحروب بين الدول والشعوب . كُلَّ ما شاهدناه وعايشناه طيلة العقديّن المنصرمين من مُنجزات السياسة الأمريكية هي خلافة الدول الإسلامية في العراق ( داعش ) ، وخلافة الدولة النازية في إسرائيل ، و افتعال حرب اوكرانيا ،من خلال استفزاز روسيا ونقض تعهدات الغرب معها عام 2014 ، ودعم المليشيات النازية في أوكرانيا مثل سنتوريا ،لاثارة الاقتتال الداخلي في أوكرانيا ومحاربة الروس .
من شدّة الارتباط الصهيوني -الأمريكي ،اصبح اغلب سياسي ،وغير سياسي امريكا ،عملاء للوبيات الصهيونية ، و كأنَّ العمالة تنتقلُ في ما بينهم بالجينات او بالوريد ، حتى ظنوا بأن الآخرين من الشعوب مثلهم ، و يصفُ الشاعر المتنبي ببراعة هذه الحالة ويقول :
إذا ساء فعلُ المرءِ ساءت ظُنونهُ
وصدّقَ ما يعتادهُ مِنْ توهّمِ
تستخدمُ امريكا ” شمّاعة إيران او بعبع ايران ” لابتزاز و تخويف دول وشعوب المنطقة ،وللتقرّب بالولاء والطاعة للصهيونية في امريكا و العالم . ولكن من الغرابة والدهشة هو انه ،وبالرغم من الاستخدام الأمريكي لشمّاعة إيران وتحذير دول المنطقة من ايران ، يتمدّد نفوذ ايران و تتطور علاقاتها مع دول وشعوب المنطقة والعالم ، الأمر الذي يدلُ على يقظة الدول والشعوب لأكاذيب الولايات المتحدة الأمريكية، و تحذير امريكا للدول والشعوب من ايران ، ليس لمصلحة العراق او هذه او تلك الدولة ،و انما لمصلحة اسرائيل .
بعد فشل تجربة الخلافة الاسلامية في العراق ( داعش ) ، وبعد فشل عزل إيران في المنطقة ، شماعتان سياسيتان تتكأ عليهما امريكا لزعزعة الاستقرار السياسي في العراق وللحيلولة دون بناء دولة سياديّة مقتدرة : شماعة الديمقراطية وحقوق الإنسان ، و وظّفتها امريكا ببراعة حين ارادت التخلص من حكومة السيد عادل عبد المهدي ،فأجّجت التظاهرات و الشارع ودعمتها بكل قوّة ،والسبب ،لانه توجّه نحو الصين من اجل مشاريع استثمارية عملاقة ، وصوب المانيا من اجل حلْ ازمة الكهرباء ؛ واليوم تستخدم شماعة ايران لتقويض السلطة القضائية، و تهديد رئيس مجلس القضاء الأعلى بعقوبات ، والسبب هو أن القضاء حرص على تطبيق الدستور واتخاذ قرارات تعزّز من سيادة العراق وتحارب الفساد .
اعتقدُ من الوطنية و الواجب ان تندّد الاحزاب والتكتلات السياسية جميعها بالتدخلات والخروقات السافرة ،وان تُعبّر كافة المؤسسات الدستورية عن رفضها و ادانتها لتصريحات و محاولات الكونغرس الأمريكي في النيل من القضاء العراقي .