كيف حطمت حرب السابع من أكتوبر كل الأساطير الإسرائيلية؟!
كتب / حماد صبح…
دخلت حرب السابع من أكتوبر شهرها العاشر بعد أن تواصلت خلال أشهرها التسعة طاحنة مدمرة زاخرة بكل المفاجآت والأهوال. حرب أرادتها إسرائيل مبيدة لكل مظاهر الحياة في قطاع غزة بشرا وحجرا وشجرا تجسيدا مخيفا لهدفها المحوري منها الذي هو تهجير مواطني القطاع الذين يداني عددهم ثلاثة ملايين نفس، الأمر الذي ينذر بأصدق الإشارات الحمراء باقتراب المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين من نهايته التي لا ملجأ له منها. وتعجل دانيال هاجاري الناطق العسكري باسم الجيش الإسرائيلي ، فجهر بهدف التهجير في اليوم الثاني للحرب حين دعا المواطنين الغزيين للتدفق نحو سيناء . وتراجعت إسرائيل عن الاعتراف بدعوته لما ردت مصر بأنها لن تسمح بذلك التدفق الذي أرادت منه إسرائيل أن يكون مرحلة أولى في طريق هجرة واسعة إلى دول العالم . ولم تقنط من بلوغه ، وأملت أن يكون القتل الهائل الواسع والتدمير الرهيب وسيلتها المثلى له.
ويسعف هذه الوسيلة الأحوال المخيفة المعقدة من الجوع والتشرد وانهيار الخدمات الصحية والمعيشية في القطاع ، وتوقف دخول المعونات بين وقت وآخر توقفا مصحوبا بصعود فلكي للأسعار يعجز عن مسايرته أكثر الغزيين مع ما في ثناياه من صدمات نفسية حين يرتفع سعر سلعة ما فجأة إلى ضعفه أو عدة أضعافه.
ومع هذه الحال الرهيبة من القتل والتجويع والتدمير الجنوني للمنازل والمرافق الحيوية التي تمنع القوانين الدولية منذ القرن التاسع عشر لا القرن العشرين فحسب المس بها ؛ أذهلت المقاومة الفلسطينية بشجاعتها وكفاءتها القتالية إسرائيل ، وفاجأتها بطول نفسها ، وقدرتها على التكيف مع الفرق المهول المتنائي عن المعقول والرافض لأي موازنة بين عدد ونوعية الأسلحة بين الطرفين . فرق لم تعرفه أيما حرب في التاريخ الحديث . المخازن الإسرائيلية طافحة بكل صنوف الأسلحة ، والمخازن الأميركية والأوروبية وبعض العربية مفتوحة لها ، لا مقطوعة ولا ممنوعة . والمقاوم الفلسطيني يعلم يقينا أن القذيفة أو الرصاصة التي يطلقها قد لا يكون لها عوض . لا خط إمداد له بالسلاح ، والجيش الإسرائيلي خلفه خطوط وخطوط تدخل عليه أسلحة وقنابل ما استعملت من قبل ، وكثير منها يوصف بالذكي لدقة إصابته للهدف المقصود.
وطغت إسرائيل في استعراض تفوقها المطلق الواسع في وفرة السلاح ونوعيته ، وتجلى ذلك الطغيان في القصف الجوي والمدفعي وإطلاق الرشاشات عشوائيا، أو على أماكن خالية ، أو سلف قصف مبانيها وتهديمها كليا ، وتجريف ما فيها من طرق ومزارع وشجر . وكان ذلك الطغيان بلاهة وعبثا وسعارا وإفراطا جامحا في روح عدوانية ظامئة متحرقة للقتل والترويع والتدمير. كانت ظاهرة جنون هائج لا أحسب لها شبيها في الحروب المعاصرة ولا الغابرة .
ولم يوهن ذلك عزيمة المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها كتائب القسام وسرايا القدس . وعلى شدة بأساء المشردين وفظاعة مآسيهم التي لا عد لها؛ شرعوا يتكيفون درجة ما مع جحيم الحرب التي باغتتهم بأهوالها وبتطاول زمنها ، وسرت بين بعضهم نغمات تفاؤل قارب اليقين أحيانا بأن إسرائيل خسرت الحرب ، وشايعت تلك النغمات أصوات في إسرائيل ذاتها ، وشايعها مبكرا وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن حين توقع بعد أسابيع من الحرب خسارة إسرائيل فيها خسارة استراتيجية .
إنها حقا الحرب الفاضحة لحقيقة إسرائيل، والمحطمة لهالة الأساطير التي أشاعتها حول ذاتها، وتجلى هذا التحطيم في:
ـ أولا: انتهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر. قهرته مقاومة غزة الصغيرة المحاصرة المجوعة، وحشرته في حرب دخلت شهرها العاشر، ويعترف كثيرون من قادته العسكريين والقادة المتقاعدين أنه لم ولن ينتصر فيها، ونشرت “نيويورك تايمز” خبرا منذ أيام يفيد مطالبة عدد من هؤلاء القادة بضرورة وقف الحرب حتى لو ظلت حماس حاكمة لغزة.
ـ ثانيا: انتهاء أسطورة أخلاقيته المثلى المنعدمة النظير التي طالما تباهى بها الإسرائيليون زورا باطلا وبهتانا مبينا. كانت حرب “سيوفه الحديدية” كاملة على المدنيين ومنازلهم ومظاهر الحياة المدنية من مدارس وجامعات ومساجد ومستشفيات ومخابز ومصادر مياه ومزارع وطرق وشجر. وجاء تصنيف الأمم المتحدة له في قائمة العار السوداء شهادة على تلك النهاية.
ـ ثالثا: أنهت الحرب أسطورة الديمقراطية الإسرائيلية. يوميا يتظاهر أهل الأسرى وأنصارهم يطالبون الحكومة بإتمام صفقة لإطلاق سراحهم ، والحكومة الإسرائيلية أذن من طين وأذن من عجين، ونتنياهو يتعنت ويتعند مصرا على البقاء في منصبه، والأحزاب الصغيرة في الائتلاف تحذر وتنذر بإسقاط حكومته إن هو أتم تلك الصفقة مع حماس. ديجول استقال من رئاسة فرنسا في 1969 حين لم يأتِ التصويت على التغيير الدستوري الذي اقترحه بأغلبية مرادة له ولحزبه، واستقال توجو رئيس وزراء اليابان في الحرب العالمية الثانية عقب سيطرة الجيش الأميركي على جزيرة سابيان.
لم يشفع له امام نفسه تعاقب انتصارات الجيش الياباني على الأميركيين والبريطانيين في عهده قبل سقوط الجزيرة. هو الفرق الكبير بين الدول الحقيقية والدول الملفقة، بين القادة العظام والقادة الصغار.
ـ رابعا: وعت إسرائيل منذ قيامها قيمة نقاء صورتها ونصاعة بياضها في عين العالم، واجتهدت نفاقا وكذبا لإبراز نفسها دولة أخلاقية مثالية متفوقة الإنسانية، ومتفردة في هذه المزية، وسحقت جرائمها الرهيبة في غزة في الحرب الحالية تلك الصورة المزيفة ، وبعثرتها أشلاء متناثرة. تنبأ الممثل الأميركي الشهير الذي قام ببطولة فيلم “القلب الجريء” حول كفاح الشعب الأسكتلندي للتحرر من الاحتلال الإنجليزي، وهو ما تحقق في 1328؛ تنبأ مبشرا لنا ومنذرا للإسرائيليين: “سيزولون. يدمرون كل شيء. عرف العالم حقيقتهم”.
ـ خامسا: لم تعرف إسرائيل في تاريخها شللاً مطلقاً في اتخاذ القرارات السياسية التي تليق بالدول المتزنة المسئولة عن معقولية ونزاهة سلوكها دوليا . طول الحرب ووفدها في ذهاب إلى الدوحة والقاهرة وباريس وإياب منها للتوصل إلى صفقة مع حماس. ويرافق ذهابه في كل مرة حديث إسرائيلي عن تزويده بصلاحية الموافقة على ما يتفق عليه مع الوسطاء، وفي كل مرة يخرج نتنياهو أو أي مسئول من حكومته وينفي صحة ذلك الحديث عن الصلاحية.
ـ سادسا: كثرة التخبط والحيرة في القرارات العسكرية. وبين وقت وآخر ينفجر الخلاف والجدل حولها بين المستوى العسكري والمستوى السياسي. وقبل أيام أشيع أن الجيش رفض تنفيذ اجتياح جديد لخانيونس وبعض المناطق حولها بعد إصداره أمر إخلاء للمواطنين فيها.
الحرب مهلكة لقطاع غزة، إنها جحيم حقيقية. كل مظاهر الحية انشلت وتعقدت، والناس تسأل متضرعة: ” متى نصر الله ؟!”، ويجيب الله _ جل في علاه _ : “ألا إن نصر الله قريب”، ووعده دائما مفعول. نألم وعدونا يألم، ولكننا نرجو من الله ما لا يرجو . نرجو منه _ عز وجل _ النصر والفرج القريب. هذه حرب لها ما بعدها : زوال لعدونا ، وبقاء وقوة لنا . إنها الحرب التي حطمت كثيرا من أساطير إسرائيل المعظمة لها ، أكثر مما ذكرنا . كانت تلك الأساطير أعمدة أقامت عليها بناءها ، وما أسرع انهيار البناء إذا تحطمت أعمدته. هذا مصير كيان أسسته الأساطير بتعبير روجيه جارودي الكاتب الفرنسي في كتابه “الأساطير المؤسسة لإسرائيل”. وغزة دائما وأبدا صانعة التحولات التاريخية الكبرى، ولهذه التحولات أثمان دفعتها حتى صنعتها إلا أن جائزتها دائما كانت أكبر من تلك الأثمان، ولن تخرج هذه المرة عن مسار تاريخها، وعدوها لن يخرج عن مسار ومصير أعدائها السالفين . ومثلما قال الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو : ” ويل لكل غازٍ لا مجد له ! ” ، وما من ذرة مجد لإسرائيل في ما فعلته وما زالت تفعله في غزة