من أين سيأتي الرّد الانتقاميّ على المجزرة الأحدث؟
كتب / عبد الباري عطوان
بعد تسعة أشهر من بدء حرب الإبادة، والتّطهير العِرقيّ في قطاع غزة، ما زال بنيامين نتنياهو يبحث عن انتصارٍ مهما صَغُرَ أو كَبُر، وخاصَّةً الوصول إلى أحد قادة الجناح العسكري لكتائب القسّام، وعلى رأسِهم المُجاهد يحيى السنوار أو أحد نوّابه ومُساعديه، ولكن دون جدوى، وسيظل يخرج من هزيمةٍ ليقع في أُخرى أكبر منها فداحة.
اليوم ادّعى الجيش الإسرائيلي أنّ هُجومه الدمويّ على مِنطقة المواصي غرب مدينة خان يونس المُزدحمة بالنّازحين، وخيامهم، استهدف المُجاهِدَين محمد الضيف القائد العام لكتائب القسّام، وزميله رافع سلامة قائد لواء المدينة على حدّ زعمهم، واحتفلت بعض أجهزة إعلامهم بهذا الإنجاز، ولكن احتفالاتهم لم تَدُم وارتكب جيشهم مجزرةً راحَ ضحيّتها أكثر من 100 شهيدٍ و289 جريحًا، مُعظمهم من الأطفال، عجزت المُستشفيات المُدمّرة والخالية أصلًا من المعدّات والأدوية من استيعابهم أو إنقاذ حياة مُعظمهم في واحدةٍ من أبشَعِ المجازر في التّاريخ الحديث.
***
القول بأنّ الغارة الجويّة جاءت بناءً على معلوماتٍ استخباريّة دقيقة عن وجود القائدين في مِنطقة المواصي مُجرّد أُكذوبة مُكرّرة، ومُحاولة يائسة لتوفير الغطاء لهذه المجزرة الدمويّة مثلما كانَ عليه الحال في جميع المجازر المُماثلة السّابقة، فقادة “القسّام” لم يروا أطفالهم وعائلاتهم مُنذ عامٍ تقريبًا، ولا يعيشون فوق الأرض بل تحتها، ويُواصلون اللّيل بالنّهار على قيادتهم بكفاءةٍ عاليةٍ للحرب والانتِصارات، ولا نستغرب أن يكونوا في نفقٍ تحت أسدود أو بئر السبع.
هذه الأجهزة الاستخباريّة الإسرائيليّة التي يدّعي نتنياهو ورهطه أنها تتمتّع بقُدراتِ رصدٍ عاليةِ الدقّة، ها هي تفشل للمرّة الألف، أمام استِخبارات المُقاومة التي نجحت مُجَدَّدًا في فضحها، وتخلّفها، رُغم الأجهزة الحديثة والمُتقدّمة التي في حوزتها.
إنّها المرّة العاشرة تقريبًا التي تدّعي فيها هذه الأجهزة وصولها إلى المُجاهد محمد الضيف واغتياله، وتُمنَى مُجَدَّدًا بالفشل الذّريع، والشّيء نفسه يُقال عن “مُعلّمه” وقائده يحيى السنوار (أبو إبراهيم)، ولا يُمكن أنْ ننْسى في هذه العُجالة، التّذكير بالبيان الذي أصدره الجيش الإسرائيلي وأعلن فيه نجاح قوّاته في اغتيال المُجاهد مروان عيسى نائب المُجاهد الضيف، في غارةٍ استهدفت “مخبأه” في أحد المنازل في مخيّم النصيرات وسط القطاع، وتبيّن كَذِبْ هذا الادّعاء كالعادة، مثلما تبيّن تلهّف أصحابه لأيّ نصرٍ غير قتل الأطفال والنّساء والمُسنّين والصّحافيين.
أعرف مِنطقة المواصي التي تُوصف بأنّها “كانت” سلّة غذاء القطاع، وتقع على طُول الشّريط السّاحلي الذي يمتدّ من دير البلح في الوسط، وحتّى الحُدود المِصريّة في رفح جنوبًا، وبطُول 12 كيلومترًا، وتتميّز بواحاتها الصّغيرة، وأرضِها الخصبة، ومياهها الجوفيّة العذبة، وكُثبانها الرمليّة الجميلة النّاعمة، وانتزعتها قوّات الاحتلال من أهلها طِوال سنوات الاحتلال، وأقامت عليها مُستوطنات “غوش قطيف” حتّى الانسِحاب منها هاربةً مهزومةً عام 2005، وتشتهر هذه المِنطقة بخضارها وأشجار جوافتها التي يشمّ المرء رائحة ثمارها عن بُعد مئات الأمتار.
هذه المنطقة الجميلة الخلّابة حوّلتها الجرّافات والطّائرات الإسرائيليّة إلى مقابرٍ لآلاف النّازحين، بعد أن وعدهم نتنياهو بأنّها ستكون آمنة، ونصبوا خيامهم فيها للمرّة الثالثة، أو الرّابعة في مسيرةِ النّزوح المُستمرّة، أملًا في البقاء على قيد الحياة وتجنّب قنابل الموت.
***
سيظلّ بقاء قادة المُقاومة في غُرفة عمليّاتهم تحت الأرض التي يُديرون فيها الحرب الأطول والأكثر كُلفةً لدولة الاحتلال، وفُقدان جيشها لهيبته وردعه، أحد أبرز عناوين الهزائم التي لحقت، وستلحق بها، وتُعجّل بزوالها من الوجود، ولعلّ قمّة المساخر وضع نتنياهو وتابعه بايدن قادة المُقاومة على قوائم الإرهاب الإسرائيليّة والأمريكيّة وفرض عُقوبات مُشدّدة عليهم، مِثل مُصادرة أملاكهم ومنعهم من دُخول أوروبا، والولايات المتحدة، وإغلاق حساباتهم في البُنوك العالميّة، فلماذا يذهب السنوار إلى أمريكا أو محمد الضيف أو غيرهم إلى العواصم الأوروبيّة للتسوّق أو الريفيرا لقضاء إجازته الصيفيّة، وهُم الذين لم، ولن يُغادروا أنفاقهم في القطاع إلّا كشُهداء للقاءِ الرّفيق الأعلى.
ختامًا نقول إنّ هذه المجازر الإسرائيليّة ستكون مُكلفةً جدًّا، ولن يمر مرتكبوها دون نيل العقاب الذي يستحقّونه، سواءً كانوا سياسيين أو عسكريين، وسيكون مصيرهم أسوأ بكثير من نُظرائهم النّازيين في ألمانيا وغيرها.. الشّعب الفِلسطيني الذي سطّر ملاحم الصّمود والنّصر في غزة والضفّة الغربيّة لن ينسى.. ولن يغفر.. وسيُطارد القتلة في كُلّ مكان.. والأيّام بيننا.