لماذا يجب أن لا نُعارض قرار الكنيست منع قيام الدولة الفِلسطينيّة؟ وكيف سيكون ردّ “فتح” على هذه الصّفعة القويّة لسُلطتها؟
كتب / عبد الباري عطوان
قرار الكنيست الإسرائيلي الذي صدر بالأغلبيّة السّاحقة ليلة الأربعاء الخميس الماضي برفض قيام دولة فِلسطينيّة مُستقلّة كانَ يُشكّل من حيث الصّياغة، والتّوقيت، هديّة “قيّمة” للشّعب الفِلسطيني، ويُعيد قضيّته إلى مسارها الصّحيح بعد أكثر من 30 عامًا من التّيه، والضّياع، والانحِراف، والتخلّي عن الثّوابت الوطنيّة، والغرق في دوّامةِ بيع الوهم والخِداع الأمريكيّة والغربيّة، بل والعربيّة التّابعة أيضًا.
هذا القرار الذي صوّت لصالحه 68 نائبًا ولم يُعارضه إلّا تسعة نوّاب فقط جاء بمثابة جرس الإيقاظ ليس للشّعب الفِلسطيني والأمّتين العربيّة والإسلاميّة، وإنّما للمُجتمع الدولي النائم في أحضان التكاذب الإسرائيلي الغربي الذي استخدم “حل الدولتين” كحقن تخدير ولتسهيل المشروع الاستيطاني ودعمه، مُنذ سقطت منظّمة التحرير في مصيدته وهي مخدّرة ومفتوحة الأعين باعترافها بالقرار الأممي 242 الملغوم، وتنازلت عن أكثر من 80 بالمئة من الأراضي الفِلسطينيّة التاريخيّة المُقدّسة، وعزّزت المنظّمة هذا السّقوط للأسف بارتكاب خطيئة أكبر اسمها اتّفاقات أوسلو مُقابل الحُصول على سُلطة “عميلة” تعتمد في وجودها واستمرارها على تشجيع التّطبيع العربيّ والعالميّ، والاعتراف بدولة الاحتلال العنصريّة الفاشيّة، وتسريع وجودها واستيطانها، وتوفير الحماية لها تحت خيمة التّنسيق الأمني، مُسجّلة السّلطة بذلك أكبر مُسابقة في الخِيانة والتّنازل عن الحُقوق في التّاريخ.
***
بصُدور قرار الكنيست هذا تكون السّلطة الفِلسطينيّة، ولا نقول “الوطنيّة”، قد فقدت كُل أسباب وجودها، وتمثيلها “المُزوّر” للشّعب الفِلسطيني، والحديث باسمه بالتالي في المحافل العربيّة والدوليّة، والشّيء نفسه ينطبق على جميع الحُكومات العربيّة التي اتّخذت من حلّ الدّولتين ذريعةً للتّطبيع والاعتِراف بالاحتِلال وسرقاته وحُروب إبادته، والتنصّل من دورها الدينيّ والأخلاقيّ والإنسانيّ في تحرير الأرض والمُقدّسات.
كُنّا نتمنّى لو أنّ النوّاب العرب في الكنيست قد صوّتوا إلى جانب هذا القرار، دعمًا لتثبيته والعودة لحلّ الدّولة الفِلسطينيّة الواحدة المُستقلّة القائمة على جميع أراضي فِلسطين التاريخيّة من النّهر إلى البحر، واجتِثاث هذه الدّولة الصّهيونيّة العُنصريّة الدمويّة من جُذورها.
توقيت صُدور هذا القرار الذي يُؤكّد الهُويّة العنصريّة الفاشيّة لدولة الاحتلال في وقتٍ ترتكب فيه قوّاتها حرب إبادة وتطهير عِرقي في الضفّة والقطاع يأتِ في اللّحظة التاريخيّة المُناسبة، من حيث فضح الوجْه الدمويّ للكيان، وتشريع هُجوم السّابع من تشرين الأوّل 2023، أو “طُوفان الأقصى” وتعميده، وتوحيد الشّعب الفِلسطيني بمُعظم توجّهاته، إن لم يكن كلّها خلفه، باعتبار الخطوة “التّصحيحيّة”، ربّما الأهم في تاريخ هذا الشّعب.
اللّافت أنّ “الرئيس” الفِلسطيني محمود عباس الذي كان “عرّاب” الدّعم والتّرويج لحلّ الدّولتين، وإسقاط حقّ العودة، والدّفاع باستِماتةٍ عن اتّفاق أوسلو الذي يتباهى “بطبخه” في دهاليز العاصمة النرويجيّة، وتجريم، بل وتأثيم الكِفاح المُسلّح، لم ينطق بكلمةٍ واحدة، إدانةً أو احتجاجًا على هذا القرار الإسرائيلي العُنصري الفاضِح، حتّى الآن، ولا نفهم أسباب هذا الصّمت من رجل قال ومن على منبر الأمم المتحدة إنّه سيحل السّلطة ويُسلّم مفاتيحها إلى نتنياهو إذا استمرّت المُمارسات العُدوانيّة والاستيطانيّة الإسرائيليّة وانتِهاك الشّرعيّة الدوليّة، وعدم قيام الدّولة الفِلسطينيّة.
قرار الكنيست يسحب كُل أسباب وجود السّلطة الفِلسطينيّة، ونُسَخ اتّفاقات أوسلو التي تستظل بظلّها بشكلٍ “قانونيّ”، ولكنّ هذه السّلطة تُدير وجهها إلى النّاحيةِ الأُخرى، وتدّعي أن هذا القرار الإسرائيلي ليس له أيّ قيمة، لأنّ هُناك أكثر من 149 دولة في الأمم المتحدة تعترف بدولة فلسطين “الوهميّة”.. إنّه الهُروب من اتّخاذِ أيّ موقفٍ أو رد، والاستِمرار في الإذعان للاحتِلال.
الكُرة الآن في ملعب حركة “فتح” التي تفتخر بأنّها أطلقت الرّصاصة الأولى على دولة الاحتلال، ووظّفت بعض قياداتها إرثها النّضالي المُشرّف لجرّ الشّعب الفِلسطيني إلى مِصيَدة أوسلو للأسف التي تعتبر أهم اختراع يهودي في التاريخ، والسّؤال هو: ماذا سيكون ردّها، أي حركة فتح، على هذا القرار، فهل تُكفّر عن ذنبها وقيادتها بالعودة إلى الكفاح المُسلّح، وبدء الثّورة ضدّ هذه القيادة المُنحرفة عن الثّوابت الوطنيّة، وتقديمها إلى المحاكم الوطنيّة الثوريّة، أُسْوَةً بما فعلته الثّورات العالميّة الأُخرى.
***
الرئيس الراحل ياسر عرفات حاول أنْ “يُكَفّر” عن “كُل ذُنوبه” وخطاياه (أوسلو) بإطلاق رصاصة الانتفاضة المُسلّحة الثّانية بعد أنْ تأكّد بأنّ رِهانه على الدّولة الفِلسطينيّة المُستقلّة رهانٌ فاشل تحقّق من فشله بعد مُشاركته في مُفاوضات كامب ديفيد برعاية الرئيس بيل كلينتون عام 2000، واختار أنْ يموت شهيدًا، ولا نعتقد أنّ “الرئيس” عباس وبعض أركان قيادته الحاليّة التي استولت على القرار الفِلسطيني، سيسيرون على الطّريق نفسه، ويهدمون “معبد” أوسلو على رؤوس الجميع؟ لدينا شُكوكٌ كبيرة، ونرجو أنْ نكون مُخطئين في تشاؤمنا هذا.
كُنّا نأمل أن يأتي إسقاط حل الدّولتين على أيدي السّلطة الفِلسطينيّة في صحوةٍ مُفاجئةٍ للضفّة بعد فشل رهاناتها على “الرّاعي” الأمريكي والعالم الغربي ووعوده الكاذبة، وحُكوماته المُتواطئة، ولكنّ الله أرادَ أنْ يقوم “كنيست” المُحتل بهذه المَهمّة لفضحها وهذا الكيان وداعميه، وإنهاء أكبر عمليّة “تكاذب” في التّاريخ الحديث.
المُقاومة بأشكالها كافّة باتت الخِيار الوحيد أمام الشّعب الفِلسطيني وكُل جبَهات المُساندة في لبنان واليمن والعِراق لفرض الاستِقلال الكامِل على كُل التّراب الفِلسطيني، وإقامة الدّولة الفِلسطينيّة الواحدة من البحر إلى النّهر، وإغلاق كُل الأبواب في وجْهِ وُسطاء الخِيانة وسَماسِرة الوهم والتّكاذُب في أمريكا والمِنطقة.