التصفيق في الكونغرس على نتنياهو.. تصفيق للذات الأمريكية
كتب / عبد السلام بنعيسي
في الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقرِّ الكونغرس، خصّه النواب الأمريكيون بالتصفيق الحار وقوفا لأكثر من 50 مرة. عدد المرات التي وقف فيها هؤلاء النواب يصفقون لزائرهم الإسرائيلي بلغ بالتحديد 52 مرة.
يا إلهي، ماذا كان يقول نتنياهو لكي يحظى بكل هذا الكم الهائل من التصفيق وقوفا؟ هل كان يرتّلُ أبياتا شعرية خارقة في حضرة متيمين بالشعر وعشاقه، وكانوا يهتزون طربا لكلماته فيقومون بالوقوف والتصفيق بحرارة للشاعر العبقري؟ هل كان نتنياهو يسرد قصصا درامية خارجة عن المألوف، كان هو بطلها الذي غامر بحياته، وأنقذ فيها بشرا كثيرين من أنياب الغول، وكانت تلكم القصص تُشعِرُ مستمعيها بالانبهار بشجاعته وإقدامه، فيبادرون إلى التجاوب مع بطلها نتنياهو، ويكرمونه وقوفا بتصفيقاتهم الحارة؟؟؟
لا هذا ولا ذاك. العالم أجمع، وعلى رأسه أعضاء الكونغرس تحديدا، يعلمون أن نتنياهو مجرم حرب، وسفاح، وقاتل أطفال، ونساء، وشيوخ، وأنه يقوم بتجويع وتعطيش شعب بأكمله، وصور المذابح التي يقترفها جيشه، بأمرٍ منه، تعجُّ بها جميع الفضائيات ومواقع النت، والتواصل الاجتماعي، ولا توجد زاوية في الكرة الأرضية لم تصلها تلكم الصور البشعة، بكل الفظاعات التي تتضمنها.
أعضاء الكونغرس يعلمون أن نتنياهو مرشح للدخول إلى السجن لأنه مجرم حرب، ورجل فاسد ومرتشي، كما أنه جبان وفاشل أيضا، فلقد عجز عن تحقيق الأهداف التي وعد بها جمهوره والمتمثلة في القضاء على المقاومة، واجتثاثها من غزة، وتحرير أسراه، وبدل قتال عناصر المقاومة، فإن قوات جيشه وأمنه، تقتل المدنيين الفلسطينيين، وتُشفي فيهم غليلها وفشلها.. فلماذا يصفق أعضاء الكونغرس على نتنياهو؟ أي معنى لهذا التصفيق المتكرر وقوفا؟
نحن أمام أعضاء في برلمان أقوى وأغنى دولةٍ في العالم، يفترض في هؤلاء النواب أنهم أناس عقلاء ومتزنون ورزينون، وأنهم وهم ينصتون لخطاب أي كان، يتمعنون في كل كلمة من كلماته، ويحللونها، ويناقشونها في دواخلهم، وحتى إن أعجبوا بمضمون الخطاب، فإن المتوقع هو ألا يقاطعوه بالتصفيق، إلا في حالات نادرة. لكن عندما يصل عدد المرات التي يُقاطَعُ فيها الخطيب من طرف النواب الأمريكان بالتصفيق لعشرات المرات في الخطاب الواحد، فهنا يفقد التصفيق طبيعته التلقائية والبريئة، ويصبح تصفيقا مصطنعا وكيديا وحمّالا لرسائل ضمنية.
يمكن القول إن هذا التصفيق يروم التعويض النفسي عن العجز والفشل في تحقيق الأهداف من الحرب. يُصرّح قادة الكيان الصهيوني ومن ضمنهم نتنياهو أنهم يخوضون حربا وجودية وعلى جبهات متعددة، ويعلمون أنهم هُزموا عمليا في هذه الحرب. النواب الأمريكيون يريدون طمأنة نتنياهو نفسيا، وشدَّ أزره، فهو كائن منبوذ بسبب جرائمه، والمظاهرات التي تملأ شوارع العواصم العالمية تشهد على ذلك، ومن المنتظر أن المحاكم الدولية تستدعيه للمثول أمامها، وهو في أمس الحاجة لإشعاره أن النواب الأمريكيين إلى جانبه، وأن بلادهم لن تتخلى عنه وستحميه من أي ملاحقة قضائية دولية، كما أنها لن ستمح بانهيار دولته التي تهتز أركانها بفعل فشلها في الحرب..
عجز نتنياهو ودولته عن إدراك المرامي من الحرب التي تشن على الشعب الفلسطيني بعد عملية طوفان الأقصى المباركة، هو في الواقع، عجزٌ أمريكي بالمنطقة. أمريكا الحليف والحامي للكيان الصهيوني، هُزمت في العراق، وفي أفغانستان، وفشل مشروعها في سوريا، وليبيا، واليمن، ولبنان، ونتج عن تصرفات أمريكا الهوجاء بروزُ مقاومة شرسة لكل مشاريعها في المنطقة، وشيوع مشاعر عدائية تجاه كل ما يصدر عنها..
التصفيق على نتنياهو لطمأنته ومؤازرته ودولته، هو تصفيق على الذات الأمريكية، في نفس الوقت، وسعيٌ لطمأنة هذه الذات، وبعْثُ رسالة إلى الرأي العام المحلي والعالمي في محاولةٍ للإيحاء بأن أمريكا ممثلة في نوابها بالكونغرس، تصارع جاهدة للحفاظ على مصالحها بالمنطقة. لكن ألا يفيد هذا بأن واشنطن باتت تشعر، بدورها، أن مصالحها في الوطن العربي صارت مهددة بضربات المقاومة؟؟؟ مهما كان الجواب، فليست هذه هي المرة الأولى التي يُلقي فيها نتنياهو خطابا في الكونغرس، إنها المرة الرابعة على التوالي، ودائما يحظى بنفس الاحتفالية الخارجة عن المألوف.
فمتى حاكمٌ عربي من حكامنا الأشاوس الذين يتصورون أن علاقات بلادهم بأمريكا جيدة وممتازة ويطبعها الاحترام المتبادل، يحظى بإلقاء خطاب في الكونغرس الأمريكي، ويخصُّه، هو أيضا، النواب الأمريكيون بالتصفيق وقوفا له، ولو لمرة واحدة؟؟؟ من المؤكد أنه لا داعي لانتظار وقوع مثل هذا الحدث. فأمريكا لا تقيم وزنا لمعظم الحكام العرب، لكي يخطبوا في مؤسستها التشريعية، ولكي يصفق لهم نوابها. إنها تأمرهم، فينفذون تعليماتها بشكلٍ فوري، وهنا تكمن مأساة الأمة العربية، إنها في انصياع حكامها للمشيئة الأمريكية…