لماذا وجّه هُجوم “حزب الله” على أكبر قاعدة جواسيس في العالم
كتب / عبد الباري عطوان
الأهميّة الكُبرى، وغير المسبوقة، للرّد بالصّواريخ والمُسيّرات الذي نفّذه “حزب الله” فجر أمس الأحد في العُمُق الاسرائيلي، وفي قلبِ العاصمة تل أبيب على وجه الخُصوص، تتلخّص في أنّ عمليّات الاغتيال الإسرائيليّة لقادة في حركات المُقاومة اللبنانيّة والفِلسطينيّة واليمنيّة لن تمرّ بُدون ردٍّ نوعيٍّ سريعٍ ومُتقنٍ بعد اليوم، وباتت مُكلفةً جدًّا.
فإذا كان الهدف الأكبر من عمليّاتِ الاغتيال الإسرائيليّة هو استعادة “الرّدع”، وترميم هيبة أجهزة الاستخبارات المليئة بالثّقوب، سواءً بالفشل الكبير الذي تجسّد في عمليّة هُجوم “طُوفان الأقصى” لكتائب القسّام يوم السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي، أو من خلال نجاح المُسيّرات اللبنانيّة التّابعة لحزب الله التي وصلت إلى “غليلوت” مقر الاستِخبارات العسكريّة الإسرائيليّة في قلبِ تل أبيب، فإنّ هدف إعادة الرّدع الإسرائيلي بات بعيد المنال، أمّا مُحاولة إعادة الهيبة للاستخبارات العسكريّة والمدنيّة الإسرائيليّة، فشلت فشلًا ذريعًا، والأخطر من ذلك أنّ تآكُلها يقترب من ذروته بعد وصول المُسيّرات اللبنانيّة إلى مقرّ قيادتها وقصفها لأوّل مرّة في تاريخ قيام هذا الكيان، وإيقاع خسائر بشريّة ومعنويّة ضخمة جدًّا ربّما لن يتم الكشف عنها الآن أو في المُستقبل المنظور.
***
صحيح أنّ سياسية الاغتيال التي تُمارسها دولة الاحتلال تُحقّق بعض النّجاحات بين الحين والآخر، وتصل صواريخها أو خلاياها إلى أهدافها، مثلما كان عليه الحال مُؤخّرًا في حالتيّ المُجاهدين إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، والسيّد فؤاد شكر قائد قوّات حزب الله، ولكنّها تُحقّق نتائج “استعراضيّة” محدودة، ولا تنجح في أيٍّ من أهدافها الرئيسيّة وأبرزها طمأنة وتهدئة روْع الرّأي العام الإسرائيلي ورفع معنويّاته المُنهارة، فالمُقاومة العربيّة والإسلاميّة، بجميع أفرُعها ولّادة، وتملك البدائل الجاهزة لكُلّ الكوادر الشّهداء ضحايا أعمال الاغتيال، مهما كانت قُدراتهم وخبراتهم، فحماس باتت أقوى بعد اغتيال الشّهيد أحمد ياسين مُؤسّسها، وكتائب القسّام دخلت التّاريخين السياسيّ والعسكريّ بعد استِشهاد قائدها أحمد الجعبري، وتولّى “الجِنرال” محمد الضيف للمَهمّة بعد استِشهاد الجعبري، بتنفيذها أهم إنجاز فِلسطيني وعربي ضدّ دولة الاحتلال المُتمثّل في طُوفان الأقصى.
مُعلّقات الكذب والتّزوير التي يلجأ إليها الكيان الإسرائيلي كسِلاحٍ لإخفاء هزائمه، وإخفاقاته المُتكاثرة والمُتسارعة، لم تعد تُحقّق أهدافها، لفضح فصائل المُقاومة لها ميدانيًّا وبالأعمال والأفعال الدّقيقة المُضادّة، وأحدث هذه المُعلّقات يُمكن حصرها في اثنتين:
الأولى: الادّعاء بأنّ الجيش الإسرائيلي أقدم على ضربة استباقيّة ضخمة بمئة طائرة من طرازيّ “إف 15″ و”إف 16” الأمريكيتين الصّنع نجحت في إحباط هُجوم الصّواريخ والمُسيّرات التّابعة لحزب الله في العُمُق الإسرائيلي فجر الأحد، وتدمير آلاف الصّواريخ الباليستيّة ومنصّاتها، والدّليل الأبرز على كذبها وصول 320 صاروخًا من نوع كاتيوشا إلى أهدافها في الجليل المُحتل وإنجاز مهمّتها في إشغال القبب الحديديّة، تمهيدًا لبدء المرحلة الثانية، أي تقدّم عشرات المُسيّرات التي واصلت طيرانها دون أيّ إعاقة، وأصابت أهدافها (قاعدة غليلوت) بكُلّ دقّة، ووفقًا للخطّة المرسومة.
الثانية: ادّعاء صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكيّة أنّ “إسرائيل” تمكّنت من رصد مُكالمات للمُجاهد يحيى السنوار داخل الأنفاق بمُساعدة أجهزة تنصّت أمريكيّة حديثة، ولكنّها لم تنجح في تحديد موقعه.
فضيحة مُعلّقة الأكاذيب الأولى مُؤكّدة ميدانيًّا، والتّعتيم الإعلامي لإخفاء آثار فشل القوّات الإسرائيليّة في منْع هُجوم مُسيّرات “حزب الله” هو أحد الأدلّة في هذا الصّدد، أمّا الأكاذيب والادّعاءات الثانية حول رصد تحرّكات المُجاهد السنوار في الأنفاق فهي ليست جديدة، وتُصنّف في خانة التّكرار المُمل الذي لم يعد يخدع أو يُثير اهتمام أكثر النّاس سذاجةً سواءً في الوسط اليهوديّ أو الفِلسطينيّ.
فإذا كانت أجهزة الرّصد الأمريكيّة نجحت في تسجيل صوت السيّد السنوار في أحد الأنفاق تحت الأرض، فكيف فشلت في تحديد مكانه؟ ومن قال لهم إنّه تحت الأرض؟ وأيّة أرض؟ فطُول أنفاق حركة “حماس” يزيد عن 500 كم حسب التّقديرات الأمريكيّة التي وضعتها خليّة أمريكيّة خاصّة مهمّتها مُتابعته (أي السنوار)، وجرى رصد ميزانيّة بمِليارات الدّولارات لتمويل أنشطتها، ثمّ لماذا لا يكون المُجاهد السنوار فوق الأرض أو في أحد الأنفاق في سيناء، أو حتّى تل أبيب، أو تحت أعماق البحر الذي فشلت السّلطات الإسرائيليّة في استِخدامِ مِياهِه لإغراق هذه الأنفاق؟
***
سياسة الاغتيالات فشلت، وباتت تُعطي نتائج عكسيّة، ليس لأنّ المُخابرات الإسرائيليّة تخلّفت أو فشلت، وفقدت تفوّقها، وإنّما أيضًا لأنّ أذرع المُقاومة العربيّة والإسلاميّة تطوّرت استخباريًّا بشَكلٍ كبير في السّنوات الأخيرة، فهي وبكُلّ بساطة لا تتبع للأنظمة العربيّة الفاشلة، والجبانة، والمُتواطئة، والخاضعة للإملاءات الأمريكيّة، وتعتمد على أجهزتها ومعدّاتها فاقدة الصّلاحيّة، وانتهاء عُمرها الافتراضي.
بقاء السنوار، سواءً تحت الأرض أو فوقها، أكبر هزيمة لأهم سِلاحَين في دولة الاحتلال، الرّدع والمُخابرات، ناهيك عن الهزائم الميدانيّة الأُخرى في جبهات القتال، وهذا البقاء يتكرّس بإذنِ الله، ودُعاء مِئات آلاف الأرامل وأُمّهات وآباء الشّهداء الأطفال منهم والشّباب والنّساء لهُ بطُولِ العُمر.
ختامًا نقول إذا كانت القنابل الأمريكيّة العملاقة التي تُدمّر الأنفاق على عُمُق 50 مترًا تحت الأرض، وكُل أجهزة التجسّس المُتقدّمة جدًّا المُصاحبة لها لم تنجح في تحديد مكان المُجاهد السنوار، والوُصول إليه، فهل ستنجح في هذه المَهمّة أجهزة تنصّت يتم المُبالغة المُفبركة لتضخيم قُدراتها؟
المُجاهد السنوار، وحسب معلومات مُؤكّدة لم يُمسِك هاتفًا مُنذ عامين على الأقل، ودوّخ، وسيُدوّخ، كُل الجواسيس الأمريكان والإسرائيليين العرب بدهائه وحسّه الأمني المُتقدّم جدًّا، وبلّغ زملاءه في الخارج بعدم الاتّصال به، لأنّه مُتفرّغ كُلِّيًّا لإدارة الحرب، ولا يُريد أن ينشغل بمهزلةِ المُفاوضات التي يعتبرها مُؤامرة، ومِصيَدةً للمُقاومة، ومُحاولةً فاشلةً لإجهاضِ انتِصاراتها وصُمودها.