أكاذيب دعائيّة وصوت السنوار!
كتب / د. كمال ميرزا
“اكذب واكذب، ثمّ اكذب.. حتى يصدّقك الناس”!
هذه هي القاعدة الأشهر في عالم الدعاية الحربيّة/ الحرب النفسيّة، والتي ابتكرها أو أطّر لها ووظّفها بشكل غير مسبوق وزير الدعاية في ألمانيا النازيّة “جوزيف غوبلز”.
الإعلام الصهيو – أمريكي منذ انطلاق “طوفان الأقصى” وهو يلتزم التزاماً تامّاً بهذه القاعدة التي أصبحت بالنسبة لكلّ مشروع عنصريّ إمبرياليّ إحلاليّ (مثل أمريكا والكيان الصهيوني) بمثابة “التعاليم المُنزَلة”!
في المقابل، فإنّ الإعلام العربيّ، وبرغم التضخم السرطانيّ في حجم مؤسساته وموازناتها الفلكيّة المرتبطة بموازنات دول، وبرغم كثرة الخبراء والمحلّلين ودكاترة الصحافة والإعلام والاتصال الجماهيري في الوطن العربيّ (وواحدهم ما بتحاكى من شدّة اعتداده بنفسه)، وبرغم لوثة تدريس “التربية الإعلاميّة” لطلاب المدارس والجامعات عبر مناهج موجّهة أو مبادرات “مجتمع مدنيّ” مموّلة.. برغم كلّ ذلك فإنّ “قاعدة غوبلز” ما زالت تنطلي عليهم بكل سهولة ويُسر وسذاجة، مع أنّها يُفترض من ألف باء الدعاية الحربيّة!
أحدث أمثلة سياسة “الكذب والكذب والمزيد من الكذب” في سياق “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة والتهجير “الصهيو ـ أمريكيّة” ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مؤخّراً من أنّ الكيان الصهيونيّ قد نجح، وبمساعدة أجهزة تنصّت أمريكيّة، في رصد مكالمات للقائد “يحيى السنوار” من داخل أنفاق غزّة، لكن دون النجاح في تحديد موقعه.
وللأسف، فإنّ وسائل الإعلام العالميّة والعربيّة والفضاء التواصليّ تتلقّف مثل هذه الأنباء والتقارير، وتتناقلها وتتداولها على عواهلها، دون تدقيق أو مُساءَلة أو تعليق.
نشر مثل هذه الأكاذيب بعد حوالي 11 شهراً من انطلاق جرائم الحرب والإبادة الجماعيّة في غزّة على يدّ ماكينة الإجرام الصهيو ـ أمريكيّة يهدف إلى تحقيق عدد من الأهداف الدعائية والنفسيّة:
ـ أولاً: التغطية على الفشل الاستخباري الذريع الذي يعتري العدو الصهيو ـ أمريكي في غزّة للآن، والعمى الاستخباراتي الذي عانى ويعاني منه قياساً بمساحة قطاع غزّة المحدودة في مقابل حجم الأموال والموارد البشريّة والمصادر التقنيّة المكرّسة لرصد القطاع والتجسّس عليه.
ـ ثانياً: ترميم وإعادة إنتاج “خرافة” التفوّق الصهيو ـ أمريكيّ، والهالة الكاذبة والمُضخّمة والمُفرطة التي تحيط بما يمتلكه من تكنولوجيا وقدرات تسبغ عليه في مخيال الناس مَلَكات وقدرات ربّانيّة بأنّه “لا تخفى عليه خافية”، وبأنّه يستطيع سماع “دبّة النملة” في باطن الأرض!
ـ ثالثاً: محاولة إضعاف الروح المعنويّة لقادة ومقاتلي فصائل المقاومة بأنّنا نسمعكم، ونرصدكم، وقادرين على الوصول إليكم، ولا مفرّ لكم منّا إلا إلينا!
ـ رابعاً: محاولة خداع قادة المقاومة ومقاتليها، ودفعهم إلى محاولة تغيير أساليبهم وطرقهم الحاليّة في الاتصال والتواصل باعتبار أنّها مخترقة ومكشوفة، واتّباع أساليب جديدة قد تكون غير مدروسة أو مرتجلة تزيد من فرص وقوع الهفوات والأخطاء.
ـ خامساً: بثّ روح اليأس بين جمهور المقاومة في الوطن العربي والعالم، وبأنّه “لا فائدة”، وبأنّ القضاء على المقاومة هو أمر محسوم ومسألة وقت لا أكثر.
سادساً: تخدير الجبهة الصهيونيّة الداخليّة، وامتصاص سخطها وغضبها، والتغطية على الفشل الذريع أمامها، و”تعشيمها” بنجاحات وإنجازات كاذبة، والإمعان في التسويف والمماطلة باعتبار أنّه: “ها نحن قد نجحنا في التنصّت على “السنوار”، وكلّ ما نحتاجه هو المزيد من الوقت حتى نتمكّن من تحديد موقعه بدقّة والوصول إليه”.
وفي مثل هذه الأكاذيب الدعائيّة، فإنّ الأخطر من العناوين الكبرى هي التفاصيل الصغرى التي يتم إيرادها تحت هذه العناوين.
إيراد هذه التفاصيل كـ “تفاصيل” يوحي للمتلقّي بصدق الكذبة الرئيسيّة، كيف لا وهذه الكذبة لها حيثيّات وتفاصيل؟! ويوحي أيضاً بصدق هذه التفاصيل وأنّها مسلّم بها وتحصيل حاصل ولا تستدعي المزيد من التوقّف والتأمل والتمحيص.
ومن جملة هذه التفاصيل الدعائيّة في تقرير “نيويورك تايمز” أنّ رصد “السنوار” وغيره من قادة المقاومة قد تمّ من خلال رادار يخترق الموجات الأرضية قامت أمريكا بتزويده للكيان الصهيونيّ، وأنّ الكيان قد نجح من خلال هذا الرادار برسم خريطة لمئات الأميال من الأنفاق تحت قطاع غزّة.
وهذا “الرادار” يأتي في سياق التعاون الأمريكيّ مع الكيان الصهيونيّ من أجل الوصول إلى “السنوار” وقادة المقاومة، ومن جملة ذلك قيام المخابرات الأمريكيّة الـ (CIA) بتشكيل فريق عمل مختص لهذه الغاية، وتفعيلها لخلايا تعمل على الأرض في غزّة من أجل جمع المعلومات.
مثل هذه التفاصيل تهدف إلى إعادة الثقة بالتكنولوجيا الأمريكيّة “الفائقة” و”المبهرة”، والتي اهتزّت الثقة فيها على مستوى العالم بطريقة أثّرت على مبيعاتها وإقبال الدول والجيوش عليها، ليس بسبب غزّة فقط، بل وأيضاً بسبب فشل وإخفاقات التكنولوجيا والأسلحة الأمريكيّة في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
كما أنّ هذه التفاصيل تسهم في “شرعنة” و”تطبيع” الدور القذر الذي يلعبه الجيش الأمريكيّ وأجهزة الاستخبارات الأمريكيّة في غزّة، والدعم الأمريكيّ غير المحدود للكيان بصورة تجعل من حرب الإبادة والتهجير حرباً أمريكيّة خالصة يخوضها الكيان وعصابة حربه بالوكالة.
ومن التفاصيل الدعائيّة التي تضمّنها تقرير “نيويورك تايمز” أنّ “السنوار” قد بات يعتمد في اتصالاته على “سعاة بشريّين” عوضاً عن استخدام التكنولوجيا القابلة للرصد، الأمر الذي زاد من صعوبة التواصل معه، وزاد من المدّة الزمنية التي تستغرقها عملية الحصول على ردود منه خاصة فيما يتعلّق بالمفاوضات.
ومثل هذه التفاصيل هدفها التشكيك بقدرة “السنوار” وصلاحيّته لقيادة “حركة حماس” بعد أن تمّ اختياره خليفة للشهيد “إسماعيل هنيّة”. كما أنّها تهيّئ الأرضيّة في المستقبل لإلقاء القبض على ساعٍ مزعوم من السعاة البشريّين الذين يعتمد عليهم “السنوار” في اتصالاته، ونسبة ما يحلو للكيان من أكاذيب ومزاعم مُغرضة ومضلّلة على لسان هذا الساعي البشريّ.
أمّا أخطر وأحقر ما تنضوي عليه مثل هذه الأكاذيب الدعائيّة، فهو “الفَرَض الضمني” أو الأساسيّ الذي تنطلق منه جميعها، وهو أنّ كلّ ما يقوم به ويُقدم عليه ويقترفه العدو الصهيو ـ أمريكي في غزّة هو من حيث المبدأ أمر مشروع ومُبرّر ومُسوّغ، وأنّ ملاحقته واستهدافه لـ “السنوار” وغير “السنوار” هو هدف مشروع ومُبرّر ومُسوّغ!
بالعودة إلى قاعدة “غوبلز” الشهيرة: “اكذب واكذب، ثمّ اكذب.. حتى يصدّقك الناس”.. فينبغي هنا التمييز بين نوعين من التصديق.
هناك مَن يصدّق لأنّ الكذبة بالفعل قد انطلت عليه وصدّقها، وهناك مَن يصدّق لأنّه يريد أن يصدّق مع سبق الإصرار والترصّد!
للأسف، فإنّ عموم الأنظمة العربيّة والمسؤولين العرب والجمهور العربيّ هم من الفئة الثانية؛ يصدّقون الأكاذيب الأمريكيّة والصهيونيّة لأنّهم يريدون أن يصدّقوها، ولأنّهم يريدون أن تنطلي عليهم بمحض إرادتهم، لماذا؟ لأنّه قد تمّت صهينة وأمركة وجدانهم من الداخل، ولأنّهم لا يريدون تحمّل العبء الأخلاقيّ وعبء الضمير والمسؤوليات الوطنيّة والقوميّة والدينيّة التي يمليها عليهم تكذيب العدو وتصديق المقاومة، ويريدون أن يتمسّكوا بتلابيب شهوة العيش: أكل، شرب، نام، تكاثر.. ولو على حساب أي اعتبارات أخرى!