التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري يُقسِّم الشعب الأمريكي
كتب / د. عبد الحميد فجر سلوم
الانتخابات في أمريكا هي دوما موضع اهتمام العالم لأن من يقبع في البيت الأبيض لهُ تأثيرهُ في أرجاء العالم.
لم تعرف الانتخابات الأمريكية في أي وقت هذا الانقسام الكبير بين جمهور الحزب الديمقراطي وجمهور الحزب الجمهوري، والعُنف اللفظي بين مرشّحي الحزبين، كامالا هاريس ودونالد ترامب..
هناك خلافات جوهرية حول مسائل كثيرة، كما الموقف من الهجرة والمهاجرين، ومن الإجهاض، والمناخ، والنزاعات الدولية، ومفهوم الحرية، والضرائب، والأسلحة الفردية، والضمان الصحي، وأمور أخرى عديدة.. ولكنهما يتّفقان بشكلٍ مطلق على دعمِ إسرائيل وبشكلٍ مُطلق..
هذا التنافس المحموم خلق شرخا كبيرا في المجتمع الأمريكي، بين مؤيّدي الحزبين وأثّرَ على تماسك المجتمع..مع وجود غالبية كبيرة من الأمريكان مُحايدين، وعلى هؤلاء يتمُّ السِباق لكسبِ تأييدهم لهذا الحزب أو ذاك، وملامسةِ همومهم واهتماماتهم وتقديم الوعود لهم.
أقطاب الحزب الديمقراطي شنُّوا هجوما لاذعا على المرشح الجمهوري دونالد ترامب في المؤتمر الوطني للحزب في شيكاغو الذي تمّ فيه تبنّى ترشيح كامالا هاريس، بدءا من المُرشّحة ذاتها، ومرورا بالرئيس السابق بيل كلنتون، والمرشّحة السابقة للرئاسة هيلاري كلنتون، والرئيس السابق باراك أوباما وزوجته ميشيل أوباما، واتّهمو ترامب بالأنانية والعنصرية وأنه خطرا على الديمقراطية، وعجوز كبير في السن، وأنه لا يفكر إلا بمصالحه ومصالح أصدقائه الأثرياء، على حدِّ تعبير الرئيس السابق باراك أوباما. لاسيما أن ترامب سبق وهاجمَ كامالا هاريس بسبب لون بشرتها، وتساءل فيما إذا كانت سوداء أم هندية الأصل وتتنكر لأصولها، وكان ردّها قويا حيث قالت له لقد كنتُ مُدّعية عامّة وحاكمتُ سابقا أمثالك من المجرمين، وأضافت أن مشروع ترامب المتطرف سوف يُضعف الطبقة الوسطى ويُعيد الولايات المتحدة إلى الخلف.
وكان ترامب قد صنّف المجتمع الأمريكي قسمين، قِسمٌ أطلق عليه الأمريكان الحقيقيين، وهؤلاء هُم من يدعمونهُ، وهذا يعني أن من لا يدعمونهُ هُم ليسوا أمريكان حقيقيين..وهذا شكلٌ من أشكال العنصرية والتنمُّر والترهيب..
خطاب باراك أوباما كان بمثابة برنامج العمل للحزب الديمقراطي.. فمعروفٌ أن له تأثيرهُ الكبير داخل الحزب، وكان له هذا التأثير حتى على جو بايدن حينما أصبح رئيسا، وكان قبلها نائبا له..
ركّز أوباما في خطابه على الطبقات الفقيرة والوسطى، والعاملة، وعلى زيادة بناء الوحدات السكنية، والرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية وتحسين ظروف المعيشة، والمساواة في الأجر بين الرجُل والمرأة، وتأمين أمن الحدود دون تفريق الأطفال عن آبائهم، وأوضحَ مفهوم حزبهِ للحرية، فقال أن الحرية يجب أن توفر لك العمل حتى تُعيلَ عائلتك وبذلك ينهض المجتمع الأمريكي وتكون العوائل في أمان، وأن تُرسِل أولادك للمدرسة دون الخشية إن كانوا سيعودون للبيت، وأن تشرب الماء النظيف، وتتنشّق الهواء العليل، وأن يكون لكلِّ مواطن قرارهُ حول أمور حياتهِ الخاصّة، في عبادتِه، وزواجهِ، وعدد أولادهِ، وأن تؤمِن بأن للآخرين خيارات مختلفة عن خياراتك، ولا تفرض خياراتك عليهم.
وأضاف، أما بالنسبة لترامب وفريقهِ، فهم لا يرون الأمور كذلك، وإنما يرون أن مكاسب فريقٍ ما هي بالضرورة خسارة فريقٍ آخر. وأن الحرية بالنسبة لهم هي أن الأقوياء يفعلون ما يريدون.
كما أوضحَ مفهومه للديمقراطية فقال، الديمقراطية ليست مبادئٌ مُجرّدة وقوانينٌ مُغبرّة، وكتُبٌ موضوعةٌ في مكان ما، إنما هي القيم التي نعيش بها والطريقة التي نعمل بها حتى مع أولئك الذين لا يشبهوننا، أو لا يرون العالم كما نراه. إنها الشعور العام بالاحترام المتبادَل الذي يجب أن يكون جزءا من رسالتنا، وحتى حينما نختلف مع بعض يجب أن نبحث عن طُرُقٍ للعيش مع بعض.. ثم قال لأجلِ كل ذلك نحن نحتاج إلى كامالا هاريس فهي المرشّحة القادرة على تحقيق كل ذلك، فهذه رؤيتها، ورؤية حزبها، وعلينا أن نُقنع الناس للتصويت لهذه الرؤية. فهي لم تُولَد بامتيازات، وإنما كانت تعمل في مطاعم ماكدونالدز الشهيرة وتقول للضيف، كيف يمكن أن أساعدك
how can i help you ?
وحينما تُصبحُ رئيسة فسوف تقول لكل أمريكي كيف يمكن أن أساعدك؟. فهي تهتمُّ بهموم الناس وحقوقهم غير القابلة للتصرُّف..
ثُم انتقد النُخب السياسية وقال جميعنا في المجال السياسي سريعون في الشكِّ ببعضنا أو بالآخرين ما لم يتّفقوا معنا بكل قضيةٍ أو مسألةٍ، ونعتقدُ أن الطريقة لنربح هي في ازدراء الآخر، وتعييرهِ. فهذا الأسلوب يناسب السياسيين الذين يريدون جذب الانتباه ويقودون للتفرقة، أما بالنسبة لنا فيجب التركيز على الأمور التي تؤثِّرُ على حياة الناس، فلا يمكن أن نربح بالتركيز على التناقضات والكراهية، فمواطنوننا يجب أن يحصلوا على ذات الامتيازات التي أُعطيت لنا. وهكذا نخلق أغلبية ديمقراطية حقيقية تضمُّ كل الناس الذين جاؤوا من كل زاوية
في العالم ولا يكون ولاؤنا للعِرق أو الدّم وإنما للحرية المُشتركة، ولا يجوز أن نكون شرطي العالم، ولكن أمريكا يجب أن تكون قوة للحق ومدافعة عن حقوق الإنسان، تعمل على وقف النزاعات وترويج السلام ومكافحة الأمراض وحماية الكوكب من تغيير المناخ، وهذا ما تؤمن به كامالا هاريس وغالبية الأمريكان. وأضاف، أعرفُ أن هذه الأفكار تبدو ساذجة الآن، فنحنُ نعيشُ في وقتٍ من الفوضى، وثقافة المال والمركز والشهرة، ونبني أسيجة حول أنفسنا حينما نشعر أننا وحيدون لا نثقُ ببعضنا كثيرا لأننا لم نأخذ الوقت لنفهم بعضنا، وفي هذا الفراغ بيننا كسياسيين ونُخَب فهذا يُعلّمنا فقط كيف نخافُ بعض ولا نثقُ ببعض..
ولكنهُ من طرفٍ آخرٍ قال أن الروابط التي تجمعنا ما زالت موجودة، لأن غالبيتنا لا يريد العيش في بلدٍ مريرٍ ومُقسّم. نريدُ شيئا أفضل، والحماس لهذه الحملة الانتخابية يشير أننا لسنا وحيدون، وأطلق شعار (استعادة أمريكا)
Restoration of America
أي نعمل مع بعض ونعتني ببعض، وننتخب هاريس لبناء بلد أكثر أمانا وعدلا ومساواة وحرية.
إذا شعار الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي هو (لنستعيد أمريكا) بينما شعار الحزب الجمهوري هو (لنجعل أمريكا عظيمةٌ مرة أخرى)..
شعار الحزبين يشير إلى إدراكهما أن الجسد الأمريكي ليس بكامل صحتهِ وعافيتهِ كما كان في زمن الحرب الباردة، وتتخلّلهُ عِللٌ كثيرة اليوم أدّت إلى إضعاف تماسك المجتمع وخلخلتهِ.
ففي زمن الحرب الباردة كان الجميع في الحزبين يدا واحدة لدرء الخطر الشيوعي السوفييتي، وكان الإتحاد السوفييتي عدوا بالنسبة للولايات المتحدة وتهديدا للنظام الرأسمالي الحُر، والعدو يوحّد خصومهُ عادة مع بعض، وحينما كنتُ أدرسُ الماجستير في جامعة سانت جون في نيويورك لم أكن أسمع لدى الأساتذة والطلاب الأمريكان حديثا بالسياسة إلا عن الخطر الشيوعي السوفييتي.
ولكن بعد زوال هذا الخطر، بدأت تنكشف بشكلٍ كبيرٍ على السطح معالم الخلافات والتناقضات داخل المجتمع الأمريكي من النواحي الآيديولوجية والثقافية والاجتماعية والعرقية والاقتصادية والسياسية، وحتى على مفاهيم القيم الأمريكية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وظهرت تيارات اليمين الشعبوي، ثم كان انتخاب أول رئيس اسود في تاريخ الولايات المتحدة(باراك أوباما). وكل تلك الانقسامات تشكل خطرا على تماسك المجتمع الأمريكي وتُضعِفهُ.
فالولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي لم تعد ترى أن هناك عدوا يهدد نظامها الرأسمالي الحر، وهي لا تعتبر الصين دولة عدوة كما كانت تعتبر الإتحاد السوفييتي، وإنما هي وحلفائها في الغرب يعتبرون الصين منافسا قويا وتهديدا لمصالحهم الاقتصادية والإستراتيجية ولكن ليس عدوا.
وتجدر الإشارة أن هناك أحزابا عديدة في الولايات المتحدة إلى جانب الحزبين الكبيرين، ولكن تأثيرها ضعيفا جدا. فهناك الحزب الشعبي الأمريكي، وحزب الإصلاح، وحزب أمريكا الطرف الأول، وحزب أمريكا المستقلة، والحزب النازي، وحزب التراث، وحزب الدستور، وحزب حفلة شاي بوسطن، والحزب الشيوعي، والعديد من الأحزاب الأخرى. ولكن يبقى الحزبين الرئيسين هما الديمقراطي والجمهوري، وقد حكمّ الولايات المتحدة منذ صياغة الدستور عام 1789 لليوم 46 رئيسا منهم 17 رئيس ديمقراطي و 19 رئيس جمهوري.. والبقية إما مُستقِل كما جورج واشنطن، أو من الحزب الفيدرالي الأمريكي، أو الحزب الجمهوري الديمقراطي، أو حزب اليمين. قبل أن يصبح التناوب على الرئاسة محصورا بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي.
وداخل الحزب الديمقراطي، الأقدم في أمريكا والعالم، توجدُ تيارات متعددة، منها المتشدِّد، ومنها المعتدل، أو الديمقراطي الجديد، كما كان أوباما يصفُ نفسهُ، ويوجد اليساريين، الذين يتّهمهم ترامب بأنهم يريدون تطبيق الشيوعية في أمريكا. وكامالا هاريس تنتمي للتيار المعتدل.
كما تجدر الٌإشارة أن الرئيسين الأمريكيين في الحرب العالمية الأولى والثانية كانا من الحزب الديمقراطي، وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت..
وفي النهاية سأستطردُ قليلا بخصوص الحزب الشيوعي الأمريكي، لأذكر أنني ذهبتُ برفقةِ عضو القيادة القومية لحزب البعث حينها الرفيق أحمد الحسن (السفير ووزير الإعلام لاحقا) في عام 1983 على ما أذكر، وبناء على طلبهِ، وبصفتي كنتُ مسؤولا في المنظمة الحزبية لأمريكا الشمالية(طبعا مع عملي الأساس كعضو في الوفد السوري لدى الأمم المتحدة) بزيارة لمقر الحزب الشيوعي الأمريكي (على أساس رفاق في النضال ضد الإمبريالية والرأسمالية) في وسط مانهاتن في نيويورك، حيثُ كان هناك موعدا مُرتّبا من طرف القيادة في وقتٍ مُسبَق، ولكن حينما وصلنا وجدنا الباب موصدا، وطرقناهُ ولم يكن هناك أحدا، فعُدنا خاليي الوفاض. وكان الرفيق أحمد الحسن في طريقه إلى كندا بدعوة من سفير الجامعة العربية في أوتاوا حينها الرفيق يسار عسكري، رفيقهِ السابق في القيادة القومية. وحين انتقالي من نيويورك سلّمتُ الأمانة للرفيق والزميل أحمد عرنوس، السفير ومعاون الوزير لاحقا، بعد تزكيته لقيادة المنظمة.. طبعا بعد مرور أربعين عاما يجوز كشف الأسرار، إن اعتبرنا ذلك أسرارا.