وإنك لعلى خلق عظيم
كتب / الشيخ حسن عطوان
عندما يمدح إنسان انساناً فقد يُحتمل في هذا المدح المجاملة وغلبة العاطفة ، لاسيّما عندما لا يكون المادح معصوماً .
أمّا أنْ يصف الله سبحانه إنساناً بأنّه على خُلُق عظيم ، بعبارة اشتملت على أقوى المؤكِدات ، ف ( إنَّ ) تفيد التوكيد ، ولام الإبتداء المزحلقة في ( لعلى ) تفيد التوكيد .
فأي مستوى من الخُلُق كان عليه رسول الله ؟؟
🖋 أخلاقٌ تحملت جلف الأعراب ..
وهي تجسيدٌ كامل لخُلق القرآن ..
كان ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يدعو الناس لشيء إلّا ويبدأ بنفسه .
عندما كان يدعو الناس لعبادة اللّه سبحانه فقد كان أعبدَ الناس جميعاً ،
وإذا نهاهم عن شيء فهو الممتنع عنه قبل الجميع .
رُمي بالحجارة ..
وألقيت على رأسه الأوساخ ..
وأُتهم بالجنون والسحر والكذب ..
وكان يقابل كل ذلك بالنصح والصفح ،
والدعاء لهم بالهداية والرشد ..
🖋 روى ابن ماجة في سننه قال :
( أتى النبي ( صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ) رجل فكلمه ، فجعل ترعد [ من هيبة الرسول ]
فرائصه ، [ الفريصة : لحمة بين الكتف والصدر ترتعد عند الفزع ]
فقال له : هوّنْ عليك ، فإنّي لست بملِك ، إنّما أنا ابن امرأة تأكل القديد [ القديد هو اللحم المجفف ، كناية عن البساطة ] ) ( 2 ) .
🖋 ويصفه وصيُّه أمير المؤمنين بأنّه :
( طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ ) ( 3 ) .
🖋 ( طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ) :
فهو كالطبيب لمرضاه ، لكنّه لا ينتظر من المرضى أنْ يأتوه ، بل هو يذهب اليهم ..
مع أنَّ حال مرضاه أصعب من حال سائر المرضى ..
مرضاه مرضى في قلوبهم وعقولهم ،
مرضاه جهلة ويجهلون أنّهم جهلة ومرضى ، فلا يقصدون طبيباً ، لذلك لا علاج لهم إلّا عند طبيب يقصدهم ، ليُشَخّص لهم المرض والعلاج .
🖋( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ )
المراهم : جمع مَرْهَم ، وهي زيوت ودهون توضع على الرأس والجلد للعلاج .
والمواسم : جمع ميسم بالكسر ، يجمع على مواسم ومياسم ، وهي آلة حديدية توضع في النار لتوسم بها الإبل والمواشي ؛ لكي تُعْرف .
🖋 ( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ) :
فهو ( صلى الله عليه وآله ) كان يستعمل المراهم في موضعها وموطن حاجتها حيث تنفع .
🖋 ( وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ) :
ويستعمل الكي بالحديد حيث لا تنفع المراهم .
وبعبارة : أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو طبيب الأرواح كان تارة يعالج مرضاه بالمراهم حيث يرى كفاية ذلك ، وأخرى يعالجهم بالكي بالمواسم ، حيث لا تنفع معهم المراهم .
🖋 وهناك معنى آخر ، وهو :
إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) كان قد استعمل اسلوبين في تربية الأمّة :
1. ( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ) : أي استعمل اللين والترغيب حيث ينفعان .
2. ( وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ) : أي استعمل الحزم والشدة والتخويف ، حيث يقتضي الأمر لذلك .
وقد قدّم الإمام إحكام المراهم على إحماء المواسم في إشارة لتقديم الرفق واللين على الشدة والخشونة .
🖋 وهنا إشارة لطيفة ، إنّه أحياناً يكون نفس الإحماء ، اي التهديد بالكي والشدة كافياً في العلاج ولو لم يُستعمل ذلك فعلاً .
🖋 ( يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ ) :
فهو ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) كان مع أمته ، يعيش في وسطها ، لذلك كان يعرف جيداً مواطن الضعف فيها ، ونقاط قوتها ، ومتى تغفل ، وأين تتحير ، وبأي شيء تتأثر ، وكيف تُعالج .
🖋 وعن أمير المؤمنين ايضاً أنّه قال :
( كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ ) ( 4 )
قال الشريف الرضي :
ومعنى ذلك : ” أنّه إذا عَظُم الخوفُ من العدو واشتد عِضَاضُ الحربِ [ أصله عض الفرس ، مجاز عن إهلاكها للمتحاربين ] ،
فَزِعَ المسلمون إلى قتال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، [ أي : لجأوا الى طلب رسول الله ليقاتل بنفسه ] ،
فيُنزِلُ الله تعالى النصر عليهم .
وقوله ( عليه السلام ) : ( إذَا احمّر البأس ) كناية عن إشتداد الأمر .
السلامٌ عليك يا رسول الله ..
عظّم الله أجوركم ، ورزقنا وإيّاكم شفاعة رسوله وأهل بيته الطاهرين .