لكي لا تهدر بحوث التعليم العالي وتبقى بلا التطبيق !!
كتب / د باسل عباس خضير …
ضمن متطلبات حصول الطلبة على الشهادات في جامعات العراق الحكومية والأهلية ولمختلف الاختصاصات ، ينبغي قيام الطلبة في المرحلة المنتهية من دراسة الدبلوم التقني والبكالوريوس بإعداد مشروع التخرج يفضل أن يكون تطبيقي ويتولى الإشراف عليه التدريسيين من ضمن التخصص ، كما يقوم طلبة الماجستير بإعداد رسالة ويتم انتقاء موضوعها ومن يشرف عليها من قبل القسم العلمي ، و يطالب طلبة الدكتوراه بإعداد أطروحتهم على أن تكون من حيث العنوان والموضوع والمحتوى والمنهجية العلمية ضمن المعايير ويتم الإشراف عليها من قبل تدريسيين لهم مجموعة من الصفات من حيث الشهادة واللقب العلمي والخبرة وغيرها من المتطلبات ، وكل ما ذكرناه يخضع للمناقشة والتقييم من قبل لجان علمية ( من داخل التعليم ) و أحيانا عملية ( من حقول العمل ) ، وبسبب عدد الطلبة الكبير المتخرجين كل عام فان الجامعات تشهد إنجاز الآلاف من هذه المشاريع والرسائل والاطاريح ، ورغم إن التعليم العالي تحقق هدفها في استيفاء إحدى المتطلبات إلا إن معظمها تمر بعد مناقشتها مرور الكرام فبعضها تحفظ في المكتبات والبعض الآخر تذهب في طي النسيان وكأنها إسقاط لفرض فحسب ، و لو تم تخصيص جهة معينة ( داخل التعليم او خارجها ) لفرز وتحليل وتصنيف تلك النتاجات لوجدنا إن عددا او نسبة منها يحمل صفة الأصالة او الاختراع او التطوير وبعضها يمكن لنتائجها وتوصياتها أن تحل قضايا اجتماعية او في حقول العمل والإنتاج بمختلف الميادين ، والمشكلة إن هذه القضية تتكرر كل عام منذ عقود بلا حلول بما يشكل هدرا في الجهود وإضاعة للأفكار وربما إحباطا لمن يمتلك الرغبة و القدرة في أن يقدم شيئا جديد او مفيد ، وبعض الدول والشركات تتعاقد مع الباحثين من هذا النوع لينجزوا ما يحتاجون في حل المعضلات او التطوير او التحديث ، ولا نعلم من المسؤول عن هذا الهدر هل هي تشكيلات الجامعات أم قطاعات العمل أم الجهات المعنية بالبحث والتطوير أينما تكون أم الباحثين ؟! .
وكمثال على تلك البحوث ، فقد اطلعنا على أطروحة قدمت في 2022 إلى الجامعة التكنولوجيا كجزء من متطلبات حصول الطالبة ( تأميم حميد عبيد / التدريسية في جامعة الفرات الأوسط التقنية ) على درجة الدكتوراه في علوم الحاسوب ، وموضوع الأطروحة يتعلق بإيجاد تقنية لتشفير الوجه الانتقائي وتعديل الصوت لحماية الشاهد في الفيديو الرقمي ، والنموذج المقدم ينقسم إلى مرحلتين ، المرحلة الأولى وتضم قسمين ، الأول منها هو الكشف عن وجه الشاهد باستخدام خوارزمية Viol – Jones التي لها سرعة عالية في الكشف عن وجه الشاهد واقتصاصه للحصول على الميزات المفيدة ( المطلوبة ) فقط ويتم بعدها عمل إطارات من اجل التعرف على الشخص وتمييزه بين مجموعة من الأشخاص في الفيديو وبشكل يفضي لعمل تصنيف للوجوه ، ثم يتم تتبع وجه الشاهد باستخدام خوارزمية KLT من زوايا مختلفة ، وعند اختبار هذا النموذج من خلال تجربة عملية فقد حققت دقة وصلت لأكثر من 99% ، وفي القسم الثاني تم تحسين الأمان لحماية الشاهد من خلال استخدام خوارزمية Rabbit لتشفير الوجه وأثبتت نتائج العمل بها تطبيقيا إنها قوية ضد أية ( هجمات او اختراق ) ، وتتعلق المرحلة الثانية التعرف على صوت الشاهد من خلال تدريب الشبكة على مجموعة من الأصوات المختلفة التي تضمنت صوت الشاهد و12 فئة من الأصوات المختلفة ، ومن خلال تجربة تطبيقية كانت دقة صوت الشاهد ( المخفي ) 99% وبما يساعد في تغيير صوته من خلال التحكم في التردد والوقت وجعله مجهول الهوية ويتم تنفيذ النموذج بواسطة برنامج Mat lab 2018b ولغة python .
والنموذج المعروض أعلاه يمكن أن يستخدم لأغراض مختلفة ، منها منصات الشهود في مراحل الإخبار والتحقيق والمحاكمة في المواضيع والقضايا التي يراد لها تشفير شخصية من يكون بعد إدلاءه بما مطلوب أمام الجهات القضائية وبذلك يتم الوصول لحقائق مهمة في مواضيع يعزف فيها بعض المدعين بالحق الشخصي او العام او الشهود الكشف عن هويتهم خشية أن يلحقهم مكروه فيما بعد ، كما يمكن أن يتم استخدام هذه النماذج في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عندما يراد إخفاء ( تشويه ) جزء من الصور والأصوات التي تعرض وخصوصا إذا كان عرضها بوضوح مخالفا لشروط ومعايير النشر او إذا كان صاحب الصورة او الصوت لا يريد إظهار حقيقة هويته للجمهور ولكن الأصل يمكن الرجوع عليه عند الحاجة ، وهي وسيلة يمكن أن تؤكد حقيقة ومصداقية البيانات او المعلومات التي يقدمها بما يسمى أي كان بمن فيهم ( المخبر السري ) حيث يمكن عرض ما يقدمه للآخرين بتشفير الوجه والصوت الانتقائي ولكن الأصل يخضع للحماية بموجب أحكام القانون ، وبذلك تستطيع وسائل الإعلام أن تزيل الابتعاد عن الحرج والتشكيك التي تتعرض له عندما تعرض مشاهد تضطر فيها لاستخدام التضليل او التضبيب ، ففي هذا النموذج يحجب الجزء الذي يراد حذفه لضرورات ، كما إن وسائل الإعلام باستطاعتها التخلص من عبارة ( صرح بذلك مصدر رفض الكشف عن اسمه ) ، إذ بالإمكان اخذ التصريح بصوت من يصرح وتشفيره دون أن يعرف المتلقي على صاحبه ، وقد أشادت لجنة المناقشة والمشرفتين بجهود الباحثة وثمنت أهمية الأطروحة ومنحت على أثرها درجة الدكتوراه عن استحقاق .
وكنا نتوقع لمثل هذا النموذج أن يحتضن من قبل الجهات المعنية لما يمكن أن يشمله من استخدامات او أن يطور ليمنح براءة الاختراع ليتوسع تطبيقه داخل وخارج البلاد ، ولكنه بقي على حاله محفوظا في المكتبات منذ إنتاجه ( عام 2022 ) ولغاية اليوم ، وهناك حالات مثل هذه الحالة وأبحاث كثيرة ربما بالمئات او الآلاف في مواضيع تتضمن أفكار وتطبيقات لحقول وتخصصات ، تصل لحد الأصالة او الإبداع او يمكن دعمها والإضافة لها لتصل إلى تلك الحدود ولكنها تهدر وتضيع ، فنشرها في المجلات العلمية المحلية او المستوعبات العالمية غير كاف لان بعضها قابل للتطبيق ويمكن له أن يضيف للجهد البشري ، ومن المؤسف أن نجد اغلب الرسائل والاطاريح التي توصي لجان المناقشة بتعضيدها لا تأخذ طريقها للتنفيذ ، وهناك تجارب لدى الشعوب يمكن الاستفادة منها بهذا الخصوص ومنها التجربة اليابانية التي وضعت المورد الفكري والعملي البشري كأعلى استثمار حققت من خلاله أعلى الانجازات ، كما إن هناك تجارب عراقية ودولية انشإت فيها مؤسسات للبحث والتطوير من واجباتها الاحتضان ، فالعبرة ليس في الزيادة الكمية للبحوث والإشادة بجودتها أثناء المناقشات ومنحها درجة ( الامتياز ) وإنما الاستفادة من محتواها ونتائجها وتطبيقاتها في الجانب العلمي لكي نكون منتجين فعليين للرصانة والأصالة وليس مطبقين لتقنيات مستوردة بعضها أصبحت متقادمة بفعل فارق الزمن بين الظهور والتطبيق ، والتعليم العالي لا تتحمل المسؤولية الكاملة لضعف تطبيق نتائج البحوث فهي منتج لها وأحيانا تتولى التسويق ، ولكن اغلب قطاعات المجتمع لم تعير هذا الموضوع نصيبه من الاهتمام كما إن معظمها لاتمتلك ثقافة التعاقد مع الطلبة او الجامعات لانجاز بحوث تتولى رعايتها وإدخالها للتطبيق بمشاركة الخريج ، ونقول نعم وألف نعم إن شباب وشابات العراق قادرون على الإبداع والابتكار والاختراع بشرط توفر الفرص والظرف والإمكانيات ، وهذا سر بروز وإبداع الكفاءات العراقية عندما تعمل خارج البلاد ونسمع عن إخبارهم والمواقع التي وضعوا بها من وسائل الإعلام .