المقاومة بين حساب العقل والعاطفة
كتب / وليد عبد الحي
شهدت الفترة القصيرة الماضية سلسلة نجاحات اسرائيلية براقة كان ميدانها الساحة اللبنانية ، فمن مقتل القائد الفلسطيني(صالح العاروري) الى القائد العسكري في المقاومة الاسلامية اللبنانية( فؤاد شكر) الى اعصار البيجر (Pager) وصولا الى احد اهم القيادات العسكرية ابراهيم عقيل..وتموضعت كل هذه الهجمات تقريبا في الضاحية الجنوبية من بيروت .
من الضروري بداية فهم بيئة الحدث، فالمقاومة اللبنانية تصارع اجهزة مخابرات اسرائيلية وامريكية وبعض الدول الاوروبية وبعض اجهزة المخابرات العربية ، وهي تقيم في وسط موازييك اجتماعي سياسي يضم أكثر من 42 تنظيم سياسي او جمعية سياسية منها شرائح مسيحية مسيسة وحزبية تناصب المقاومة العداء ولها اجهزة رصد وامن خاص بها ، وهناك جهاز أمن رسمي لبناني بعضه لا يقل عداء للمقاومة عن العداء الاسرائيلي، ثم هناك شرائح مسلمة بعضها سني ( فلول احمد الاسير ومن على شاكلته ) وبعضها شيعي( فلول صبحي الطفيلي) و ” بعضٌ ” من كل ما ورد لا يمانع في المصاهرة السياسية مع اسرائيل واجهزتها ، ومن المؤكد ان هذه الحاضنة تشبه السير ليلا في حقل الغام وفي تضاريس شائكة ومليئة بالمنزلقات.
لا يقتصر تعاون الجهات السابقة ضد المقاومة على الناحية الأمنية ، بل يرتبط بها شبكات اعلامية تضخ ليل نهار مادة اعلامية بعضها للتشكيك في المقاومة الاسلامية اللبنانية واستثمار ايضا اية انتكاسات لها، بخاصة ان هذا الفيض الاعلامي يمور في دورق من ثقافة مبرمجة (كاغلب الاعلام الرسمي العربي وغير العربي) وثقافة المكايدة( على غرار اغلب الفضائيات الخليجية ثم ثقافة الثأر( كالجزيرة التي تستبطن عداءً منذ اجهاض مراهناتها بخاصة في سوريا في العشرية الماضية) ،ثم ثقافة الجهل القائم على وهم المعرفة ببواطن الامور.
ما سبق محاولة لفهم تعقيدات بيئة المقاومة في لبنان والاقليم بل والعالم وإدراك عوامل النجاح الاسرائيلي ضمن هذه البيئة دون غض الطرف عن ثغرات بنية المقاومة التي سأتوقف عندها لاحقا.
بالمقابل ، اود ان اطرح سؤالا محددا : هل بقاء اسرائيل في حالة حرب دائمة منذ انشائها قبل 76 سنة ، بل إن اوار الحروب ضدها تميل في اتجاهها العام لإيقاع الأذى بها أكثر فأكثر ، هل هذا دليل نجاح في استراتيجيتها ام دليل فشل؟ فإذا كان دليل نجاح فلماذا استمرار “عسكرتها ولتكون هي الدولة الاعلى عالميا في نسبة مستوى الانفاق الدفاعي الى اجمالي الناتج المحلي؟ ولماذا تحتل اسرائيل المرتبة (169 ) عالميا من حيث مستوى الاستقرار السياسي والذي بقي معدله بالسالب منذ 1996 الى الآن (- 1,5 من مقياس 2.5) وهو يتزايد منذ عام 2019 وبوتيرة تصل الى 62% خلال 5 سنوات.
من جانب آخر، هل بقاء نسبة تفوق 85% من المجتمع العربي (نخبه وعامته،ذكوره واناثه، فلاحيه وبدوه وحضرييه) معارضين لأي تطبيع مع اسرائيل وقبول التعايش معها، هل هو نجاح ام فشل استراتيجي اسرائيلي؟ ان الذي هزم المغول والصليبيين والرومان والاستعمار الفرنسي والبريطاني ليس القادة ، بل الشعوب، فالقادة هم رموز لوعي وحس وطني ، فصلاح الدين الايوبي لم يهزم الصليبيين بمفرده بل هو رمز لمجتمع منتصر، والعربي المهيدي لم يهزم فرنسا في الجزائر وحده بل هو رمز لمجتمع منتصر…وهنا يُطل السؤال الآخر: هل العداء المجتمعي العربي العميق والواسع هو دليل نجاح استراتيجي لاسرائيل ام فشل لها…والرهان على التكتيك هو رهان خاسر كما علمنا كل علماء الاستراتيجية ..وثقافة الشعوب اطول عمرا من ثقافة قادتها ..
ان الرهان الاستراتيجي هو الاساس، والنجاح التكتيكي إذا لم يتراكم في اتجاه خطي نحو انجاز استراتيجي فهو فرح عابر لا أكثر، وعلى المقاومة ان تعمق رهانها الاستراتيجي مهما قسا العابر من الظروف، فالتاريخ هو رحم الرهانات الاستراتيجية، واسرائيل رهان استراتيجي عاقر مها زهت في عيون مستوطنيها…وهذه استنتاجات يكررها علماء اسرائيليون مرموقون تطول قائمة اسمائهم، ومنهم :البروفيسور إيلان بابيه، والبروفيسور أرون سيتشانفور(الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء) وتامير باردو، مدير الموساد السابق، وديفيد هاريل، رئيس أكاديمية العلوم(احد علماء الكومبيوتر) وتاليا ساسون، المسؤولة السابقة في النيابة العامة الإسرائيلية والروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان، ورؤساء وزراء سابقين منهم الوزراء إيهود باراك وايهود أولمرت ودانيال ليفي المستشار في رئاسة الوزراء الاسرائيلية وجدعون ليفي الذي ناطقا باسم شيمون بيريز(رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق) والحاخام ديفيد وايز الناطق باسم ناطوري كارتا، والبروفيسور ديفيد باسيغ(اشهر علماء الدراسات المستقبلية في اسرائيل) وغيرهم الكثير…
لكن ما سبق لا يمنع التساؤل الذاتي : لماذا وقع ما وقع في لبنان في الايام الاخيرة التي اشرت لها؟ لقد حقق الطرف الاسرائيلي نجاحات تكتيكية متلاحقة لا يجوز التعالي على بريقها لدى الطرف الاسرائيلي من ناحية وارتكاساتها النفسية على جمهور المقاومة من ناحية ثانية ، وهو ما يستدعي اعادة النظر في الترتيبات الامنية للمقاومة، في مدى السرية والتخفي ومتاهات الامكنة والخداع وتوسيع دائرة المواجهة ضمن القدرات ناهيك عن الوصول للمعلومات ..الخ.
أظن ان إعادة التوازن لصورة المقاومة لدى جمهورها وخصومها هو في عدم الانفعال في اتخاذ القرار تحت وطأة ضغط الظروف والتسرع في استعادة المهابة امام الجموع ، لكن ذلك يستدعي انجازا يعمق ما تحقق من تهجير للمستوطنين وانهاك اقتصادي متواصل واستنزاف بشري وامتصاص لتأثير الضربات الامنية واستمرار المساندة لغزة..فلا يجوز اتخاذ اي قرار متسرع تحت ضغط لهفة الجمهور وعواطفه، لأن فشل التسرع سيكون أثقل وطأة من ما جرى ، فالحقل مهم لكن البيدر اكثر اهمية …و إِنَّ الْمُنبَتَّ لا أرضاً قطعَ ، ولَا ظهْراً أبْقَى.