قوتهم من ضعفنا وتشتت صفوفنا
كتب / دكتور محيي الدين عميمور
أطلق المثقف الجزائري د. جمال العبيدي في عدد أول أمس من “رأي اليوم” صرخات تنبيه يجب التوقف عندها لأنها أكثر من ضرورة في زمن اللاوعي العربي والدياثة السياسية والإحباط الإقليمي والخَوَر الجماعي.
جمال، والذي يكتب أساسا باللغة الفرنسية، يقول لنا بملء فيه، إن صحّ هذا التعبير: “إسرائيل ليست قوية، والموساد ليس “سوبرمان”، إن قوتهم تكمن في نقاط ضعف معسكر المقاومة العربية…..الإسرائيليون هُم في الواقع ضعفاء من الناحية الإستراتيجية، إنهم خائفون…البشرية ترفضهم.. .. وسياسة الإبادة الجماعية والدموية المستمرة لإسرائيل في ظل الولايات المتحدة هي اعتراف كبير بالضعف… إنهم يعرفون القتل فقط… ليس لديهم سياسة أخرى….لم يتم تحقيق نصر طويل الأمد أو نصر أخلاقي أو حضاري بهذه الطريقة”.
ولعل جمال يريدنا أن نتخيل الأوضاع إذا لم تكن قيادات واشنطن والمجموعة الأوربية هي جسم “اليد الصهيونية”، التي يقبلها ويتبرك بها محسوبون على الوطن العربي والعالم الإسلامي، بينما هي مجرد أداة لا قيمة لها ولا فعالية إذا بُترت من الجسم.
والواقع الذي يجب أن نتنبه له أيضا هو أننا نتعرض، في وقت واحد، لشلال من المعلومات المشبوهة والآراء المنحرفة التي يغرقنا بها طابور خامس يملأ الجو بالشكوك حول إخلاص هذا ووطنية ذاك، ويُشكك في فعالية المواقف التي تتخذها المقاومة، بحيث وصل الأمر ببعض “الرويبضة” إلى القول بأن السابع من أكتوبر هو كارثة، متناسيا أن الكارثة الحقيقية هي في تعامل قيادة بلاده مع شهداء “الطوفان”، الذين التحقوا بشهداء 6 أكتوبر المجيد، وفي تشكيك إعلامه بكل ما يرتبط بالمقاومة.
وجمال يُذكرنا هنا بأن الجيش الفرنسي في الجزائر “استخدم خلال ثورة نوفمبر نفس الأساليب التي يستخدمها الإسرائيليون اليوم، أي زرع عدم الثقة في الشعب و“البارا نويا” في صفوف جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، وهو ما جعْل الجزائريين يظنون، في مرحلة معينة، أن لديهم العديد من العملاء والمخبرين في صفوف المقاومة الجزائرية، وأدى ذلك إلى المأساة المؤلمة المعروفة باسم “bluite” (المؤامرة الزرقاء) في أواخر عام 1957، عندما تم الاشتباه في عدد من المقاتلين الجزائريين، وفقدوا حياتهم” (فقد أعدمتهم الثورة).
والواقع هو أن الكيان يستعمل وسائل قتالية مختلفة ومتكاملة، فبجانب جريمة الإبادة البشرية والتطهير العرقي التي يواصل بها سياسة دير ياسين وكفر قاسم يُعزّز، من جهة، قدراته الاستخباراتية ليكون الوطن العربي في قبضة يده، ويشحن، من جهة أخرى، الفضاء الإعلامي “الدولي” بمعلومات عن الاختراقات الإسرائيلية للساحة العربية (ومعظمنا لا يُصدّق إلا ما يُنشر في الصحافة الدولية بعد أن تعهّر الكثير من منابر الإعلام العربي) وكل هذا بجانب التحليلات التي تنال من صواب المواقف الجهادية للمقاومة.
وهكذا يتحول بعضنا، وبدون أن يشعر، إلى طابور خامس يدمر معنويات الجماهير.
يضاف إلى هذا كله، أن الكيان يواصل دراسة الواقع العربي وتحديد نقاط ضعفه، والتركيز في الإعلام الغربي، عبر عناصره، على تغذية عقدة الذنب لدى الشعوب الأوربية، وترديد أكذوبة الستة ملايين يهودي الذين قتلهم هتلر، لأنهم يعرفون أن تلك الشعوب، عندما أدركت الحقيقة بفضل نضال الرجال، تمكنت من إسقاط حكومة أنتوني إيدن وإجبار الولايات المتحدة على إنهاء حرب فيتنام، وكان لها دور كبير في خضوع الجنرال دوغول لإرادة المفاوض الجزائري.
ولعل هذا كله أمر جديد بالنسبة للذين كان يعنيهم “موشي دايان” بقوله إن العرب “لا يقرؤون”، لأن مفهوم القراءة في تصوري يعني أمرين متناقضين، إما الإطلاع أو عدم الانسياق وراء كتابات مشبوهة الأهداف (رجاء الإطلاع على مقال الأستاذ نواف الزرو).
وإذا كانت جرائم الكيان الصهيوني واقعا يجب التذكير به دائما، فإن عجز الوطن العربي عن استخلاص العبرة من تجارب العقود الماضية هو أيضا واقع يجب أن يظل دائما نصب الأعين والأذهان.
وكنت تناولت كتابا عن “الحروب السرية للاستخبارات الإسرائيلية”، صدر في بيروت عام 2010 عن دار “الحرف العربي” في طبعة تتجاوز 430 صفحة كبيرة، يضمُها غلاف مُتميز يحمل اسم المؤلفيْن، إيان بلاك وبني موريس، واسم المترجم، العقيد الركن إلياس فرحات.
وعاد الكتاب بي إلى الخلف، عندما أكدّ ما كنت أشرت له يوما في إطار الاتهامات الموجهة إلى العرب بالإرهاب من أن عمليات الاغتيال السياسي في الوطن العربي بدأت على يد اليهود في مصر عندما اغتالوا اللورد “موين” في 1944، ثم تواصلت باغتيال المبعوث الأممي الكونت “فولك برنادوت” في 1948 لأنه اقترح تقسيم القدس بين العرب واليهود، ثم اغتيال العقيد “مصطفى حافظ”، رئيس الاستخبارات العسكرية المصري في قطاع غزة الذي اتهم بتدريب الفدائيين، وذلك باختراع صهيوني جديد هو الطرود المُفخخة، التي قتل بها فيما بعد في مصر عدد من الخبراء الألمان، وكان ممن أصيبوا بها يوما المناضل الفلسطيني المعروف بسام أبو شريف.
ويُبرز الكتاب التواطؤ البريطاني الصهيوني منذ الثلاثينيات، والذي وصل إلى حد إدعاء ظهور مرض “الكلَب” لتبرير قتل الجنود البريطانيين للكلاب التي كانت تحرس المزارع الفلسطينية من الغارات اليهودية المفاجئة، ثم يُبرز مدى دناءة الأسلوب الصهيوني عندما يعترف بأن الجاسوسين “دافيد مزراحي وعزرا هورنين” كانا يحملان في مطرتيهما ماء ملوثا بميكروبي الديزونتاريا والتيفوئيد، كانت ستلقى في آبار المياه العربية، لتضاف أعداد جديدة لقائمة شهداء كفر قاسم ودير ياسين.
ومنذ بداية المواجهات، كما يقول الكتاب، تفرغ الصهاينة لدراسة الشخصية العربية، وجُمعت الدراسات في نشرة وُزعت على قادة “الهاغاناه”، وكان من بين ما جاء فيها : “نحن نعتقد أن أكثر الأسلحة فعالية ضد الثائر العربي هو معرفة عقليته وردود فعله المُحتملة على مختلف المواقف. …يجب أن نعرف طريقته في الهجوم والدفاع والتمويه والهرب، وحبه الطفولي !! للسلطة، وقدرته على الصمود في وجه الرشاوى (..) والتخلي عن رفاقه وقت الشدة، ومدى استعداده لخيانة رئيسه (..) وما الذي يُثير أعصابه، وما هي أكثر الوسائل فعالية لضربه، ثم متى يكون الهجوم عليه شخصيا أمرا فعّالا، ومتى يكون الهجوم على أملاكه أفضل”؟.
ويتوقف الكاتبان عند الجاسوسة المصرية الحسناء “يولاند غاباي” التي سارت على خطى “ماتا هاري” واخترقت السفارة الأمريكية في القاهرة وحصلت على “معلومات عسكرية حول التونسيين والجزائريين الذين كانوا يُقاتلون في فلسطين.
ولعلّي أذكر هنا بأمر يكتسي أهمية بالغة، وهو دراسة العمليات الإجرامية “الإرهابية” التي عرفها العالم الغربي، خصوصا بعد أن تأكد، بعد طوفان الأقصى، أن “داعش” وما يُسمى “الدولة الإسلامية” هي صناعة صهيونية أمريكية، حيث أن المتهمين بارتكاب الجرائم “الإرهابية” تمت تصفيتهم على الفور، وبالتالي لم يعُدْ من الممكن معرفة من كان وراءهم، وهل كانوا فعلا إسلاميين متطرفين أم “روبوتات” تحركهم الأيدي التي تريد تلويث الإسلام والمسلمين.
وأذكّر هنا بأن كلمة الإرهاب، بنص الآية القرآنية، تعني أخذ العدة لكيلا نتعرض لغزو العدوّ، وبالتالي هي واجب وطني، ولا تعني الـ(TERRORISME) أي الترويع الذي يستهدف الآمنين.
لكن هدف قيادات الشمال النصرانية – العبرية، أو ما أسماه الدكتور طارق ليساوي “الحلف الصهيوصليبي”، كان تشويه كل ما يرتبط بالإسلام، وهكذا فرضوا مفهومهم لكلمة الإرهاب لتصبح كلمةً قدحية، وجعلوا من كلمة “الجهاد” كلمة سيئة السمعة، وكانت الفضيحة – المصيبة أننا استوردنا ذلك المفهوم فأصبح جزءا رئيسيا في خطابنا السياسي، وتجاهلنا ما عبر عنه الأستاذ فؤاد البطاينة أمس من أن ما يحدث هو “حرب على الإسلام كعقيدة، لخلخلة قيم وثقافة وموروثات الإنسان العربي والمسلم التي تشكل مصدر قوته”.
وعودة للكتاب الذي يُذكّر بالتحالف الاستراتيجي بين المخابرات الإسرائيلية والمخابرات الفرنسية منذ 1955، عندما حاولت فرنسا إجهاض الثورة الجزائرية بالقبض على قادة الثورة المتوجهين إلى تونس للاجتماع مع الرئيس الحبيب بورقيبة، بدون أن تدرك أن “لامركزية” الثورة الجزائرية قد تجعل من اختفاء أي زعيم، مهما كانت أهميته، حدثا مرحليا مؤثرا ولكنه غير كاف للقضاء على ثورة شعب أراد الحياة.
ويُذكر أن “شيمون بيريز” قال بعد ذلك : “كل فرنسي يُقتل في شمالي إفريقيا هو مثلُ كل عربي يُقتل في قطاع غزة، يُقربنا خطوة نحو تقوية العلاقات بين فرنسا وإسرائيل”، وهو مما يفسر العلاقة الحميمية بين الجزائر وفلسطين.
وكانت المخابرات الإسرائيلية، كما يقول الكتاب، قد زرعت في الشمال الإفريقي عميلها الخاص “شلومو هافيليو”، الذي أبلغها باستنتاجاتٍ عن الأحداث، تركزت في أن “الأراضي الإسلامية الفرنسية”! سوف تحصل على استقلالها قريبا، وأن الموجة القومية التي يدعمها عبد الناصر، عدوّ إسرائيل الرئيسي، سوف تشكل خطرا على الجالية اليهودية هناك (ص154) وهكذا تم تشكيل منظمة استخباراتية واحدة لكل من تونس والجزائر والمغرب، وعُيّن 20 عنصرا من “الموساد” لإدارة المنظمة، تركز منهم ثمانية في المغرب، حيث جالية يهودية ضخمة (ولعل هذا يُفسّر ما عرفته المنطقة من أحداث).
ويروي الكتاب أنه، في إطار التنسيق الفرنسي الإسرائيلي، طلبت المخابرات الإسرائيلية من زميلتها الفرنسية لائحة بأسماء زعماء جبهة التحرير الوطني، وحصل الإسرائيليون على تقارير بتحركات البعض، ومنهم أحمد بن بله ومحمد خيضر.
وهنا نفهم مغزى إشارة هيكل يوما إلى خلفيات اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين في 1956، والتواطؤ المرتبط بها، وكانت إسرائيل، طبقا لما يرويه الكتاب (ص 153) هي التي قدمت المعلومات حول رحلة الطائرة، في مرحلة تميزت بعلاقات خاصة بين الاستخبارات الإسرائيلية وبعض عناصر أجهزة الأمن، على خلفية الكراهية المشتركة لجمال عبد الناصر والتخوف من الثورة الجزائرية.
والمهم هنا هو أن نقرأ، بكل المعاني التي تعنيها الكلمة.
فما هو أروع من الروعة، أن السنوار ورفاقه درسوا كل ذلك وهضموه واستفادوا منه وتصرفوا على ضوئه، ولعل الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية كانت من بين الدروس التي حفظها رجال الطوفان العظيم، طوفان الأقصى المبارك.
ويبقى أن أقول بأن ما قاله الأستاذ البطاينة يجب أن يأخذه المعنيون على محمل الجد، وليتذكروا أن واشنطن لم تحرك أصبعا واحدا لإنقاذ شاه إيران.
ولا قرت أعين الجبناء.