رسائل قمة بريكس الى الغرب
كتب / كريم المظفر
في الأجواء الاحتفالية الكبيرة ، استضافت العاصمة التتارستانية كازان ( جمهورية ضمن الاتحاد الروسي ) ، وعلى مدى ثلاثة أيام ، العشرات من رؤساء (22 رئيسا ) ، وممثلي مختلف الدول من قارات العالم المختلفة ، والأمناء العامون لأكبر اتحادات التكامل الإقليمي: منظمة شانغهاي للتعاون، ورابطة الدول المستقلة، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ودولة الاتحاد إلى قمة البريكس ، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ، لتشهد حدث عالمي هو الأول من نوعه ، وهو استضافتها لقمة مجموعة دول بريكس ، تحت عنوان ” تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين ” ، بدورتها ال( 16 ) ، لتكون هذه المدينة الروسية العريقة ، وكما قال الرئيس الصيني المشارك في القمة بأن ” قمة “بريكس” في روسيا ، عامل تشكيل التعددية القطبية لنظام عالمي عادل “ ، كما إن حدثًا من هذا النوع في روسيا ، يعد إشارة واضحة إلى أن البريكس قد برزت كمنصة دولية مهمة.
الموضوعات الرئيسية لقمة البريكس، التي تترأسها روسيا للمرةالرابعة، هي تعزيز التعاون متعدد الأطراف بين الدول، ودمج الأعضاء الجدد، وحل الصراعات الإقليمية، ومناقشة الشراكات المحتملة ، واستراتيجيات تسريع النمو الاقتصادي وتعزيز مكانتهم على المسرح العالمي ، وإن الاهتمام بالحضور الشخصي للقمة، وحجم هذه القمة ، يشير إلى أنه حتى بعد العقوبات الغربية، فإن مكانة روسيا وسلطتهاالدولية لم تتزعزع، ولا تزال البريكس واحدة من أكبر التجمعات الدولية ذات الأهمية الجيوسياسية، والتوقعات بأن تصبح في المستقبل ، لاعبا مهما على المسرح العالمي، وقادرا على التنافس مع الاقتصادات المتقدمة في الغرب.
ومما لا شك فيه ، فان عقد القمة أثار بالفعل ضجة غير مسبوقة ليس في وسائل الإعلام الغربية فقط ، بل أيضا في الدوائر السياسية الغربية وعلى مستويات مختلفة ، واعرب الغرب عن “انزعاجه” من عناق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال لقائهما في قمة “بريكس” ، والتي جعلت اسنان لندن وواشنطن “تصطك غيضا ” من هذا الموقف ، والذي حاول الغرب بكل وسائله واغراءاته في اقناع رئيس الوزراء الهندي ، بالابتعاد عن روسيا والرئيس بوتين ، فجاءت ” الرياح بما لا يشتهيه الغرب ” ، وكذلك أظهر الاتحاد الأوروبي عدم رضاه عن المشاركة الدولية الواسعة ، التي تحظى بها قمة “بريكس”، لا سيما من الدولة المرشحة للانضمام إلى الاتحاد( والمقصود بها تركيا ).
ان النجاحات التي حققتها ” بريكس ” منذ تأسيسها ، وما تمخضت عنه قمة ” كازان 2024 ” ، جعلت الغرب يتجاوز بالفعل مرحلة النظر باستخفاف إلى هذه المجموعة ، التي فندت فكرة تأسيس المنظمة كنوع من البديل للمؤسسات العالمية ، بل على العكس ، فقد اكد بيانها دعما كبيرا للأمم المتحدة ودورها ، واحترام قوانينها والالتزام بمبادئها ، لكننا بالإمكان القول إننا نعيش في لحظة فاصلة ، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدركان ، أن الوحدة ليست على الإطلاق زخرفة خالية من المعنى، لكنهما لا تستطيعان بعد فهم دورها المحتمل في العالم الجديد ، بل نحن نتحدث عن بداية تصور الإمكانات الحقيقية لدول البريكس ، ويتحدثون عن ذلك على أنه نوع من محاولة بناء علاقات دولية تتجاوز المؤسسات الغربية ، وإن الاهتمام المتزايد بهذا الشكل لا يؤدي إلا إلى تعزيز عملية إعادة التفكير التي تقوم بها واشنطن وبروكسل في منظمة الدول النامية هذه.
كما وأثارت قمة البريكس ضجة في الأوساط السياسية والإعلامية الغربية، وكتبت شبكة “سي إن إن” أن وصول عدد من رؤساء الدول إلى قازان ، يشير إلى أن فلاديمير بوتين “ليس وحده، فهو مدعوم من تحالف ناشئ من الدول” ، في حين رأت صحيفة واشنطن بوست ، أن المنظمة رمز لتراجع هيبة الولايات المتحدة، وتصف صحيفة نيويورك تايمز الجمعية بأنها “أقوى هيكل لخلق نظام عالمي جديد”.
وهذا الموقف تجاه البريكس ، أملته النجاحات الحقيقية للمنظمة ، ففي العام الماضي، انضمت إليها أربع دول جديدة ، الإمارات وإيران ومصر وإثيوبيا، وقائمة طلبات الدول الراغبة في الانضمام للمنظمة في تزايد ، مع زيادة قناعة الراغبين بالانضمام ، بأن ” بريكس ” اليوم ، تستوفي جميع تطلعاتهم لتحقيق مصالحهم الوطنية والقومية ، وفي الوقت نفسه، في عام 2014، تم إنشاء بنك التنمية الجديد – وهو مؤسسة مالية تعمل على تعزيز تنمية بلدان الجنوب العالمي ، بالإضافة إلى ذلك، تجاوزت حصة المنظمة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بالفعل حصة مجموعة السبع، كما ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، خلال خطابه أمام منتدى أعمال البريكس ، سوف تتسع هذه الفجوة بمرور الوقت ، وسيصل متوسط معدل النمو الاقتصادي في دول البريكس إلى 4%، في حين لن يتجاوز معدل النمو الاقتصادي في دول مجموعة السبع 1.7%.
أن موسكو ونيودلهي وبرازيليا وكيب تاون وبكين ، أثبتت قدرتها على الترويج لأفكار مثيرة للاهتمام للتفاعل في مواجهة المنافسة الفعلية مع الغرب ، و كان هذا العامل هو الذي خلق اهتمامًا قويًا بمجموعة البريكس في جميع قارات العالم ، وليس من قبيل الصدفة أن الموجة الثانية من توسع المنظمة حدثت على وجه التحديد في عام 2023 ، وأظهر هذا الحدث الجاذبية المتزايدة لهذا التنسيق ، علاوة على ذلك، ظهرت “براعم” الموقف الجاد تجاه البريكس من جانب الغرب في عام 2014، عندما تمكنت الجمعية من إنشاء بنك التنمية الجديد” ، ثم اهتمت الولايات المتحدة بفكرة إنشاء مؤسسات اقتصادية بديلة“ ، وبالتالي أدرك الغرب بالفعل أن مجموعة البريكس كمؤسسة للتعاون الدولي يجب أن تؤخذ على محمل الجد .
ويوافق المراقبون والمحللون السياسيون ان العامين الماضيين كانتا نقطة تحول ، ومع ذلك، سيلاحظ المؤرخون المستقبليون بالتأكيد ، أن قمة كازان هي التي لعبت دورًا رئيسيًا في حياة البريكس ، فاليوم ، حتى واشنطن وبروكسل مقتنعتان بأن المجموعة لم تعد مجرد منتدى بسيط للمصالح ، وتحولت إلى منظمة كاملة قادرة على حل القضايا الرئيسية في السياسة والاقتصاد ، علاوة على ذلك، جاء هذا الفهم إلى الغرب فجأة ، فجدول الأعمال الرئيسي لوسائل الإعلام الغربية والأوروبية، باستثناء موضوع الانتخابات الأمريكية، يكاد يكون مليئًا بالكامل بالأخبار المتعلقة باجتماع قادة البريكس ، ومن الواضح أن الحدث يُنظر إليه بدرجة من المفاجأة – فهم لم يكونوا مستعدين لوقوع الحدث على هذا النطاق ، فقد كان الغرب يتطلع إلى الداخل لفترة طويلة، والأحداث في أجزاء أخرى من الكوكب لم تكن تثير اهتمامه كثيرًا ، ففي واشنطن وبروكسل اعتقدوا أنهم تمكنوا من بناء «حديقة»، بحسب بوريل، وكان كل ما حولها «غابة» ، ومع ذلك، اليوم هناك ارتباك في معسكرهم ، وقد دفعتهم هذه الأزمة الأيديولوجية إلى إعادة التفكير في دور مجموعة البريكس.
لقد فقدت المؤسسات التي تتمحور حول الغرب جاذبيتها السابقة ، وتقدم مجموعة البريكس أجندة إيجابية ، وبالطبع، وان جميع البلدان تسعى جاهدة لفهم بعضها البعض وفي الوقت نفسه، لا يريد الغرب تشجيع إنشاء عالم متعدد الأقطاب، وبالتالي يرفض التعاون مع البريكس، كما يقول عالم السياسة الألماني ألكسندر راهر ، “إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خائفان من نهاية دولرة الاقتصاد العالمي ،والقيادة المتزايدة من جانب أعضاء الرابطة، ومع ذلك، لا يمكنهم تجاهل أهمية القمة في كازان “.
وبالطبع، يأمل الغرب ألا تتمكن المنظمة من التوصل إلى توافق في إطار إنشاء نظام بديل للمؤسسات التي تنظمها واشنطن أو بروكسل، ويؤكد أن وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية ، ليست متحمسة على الإطلاق لتغطية أنشطة البريكس ، لأنها لا تفهم سبب عدم مشاركة المشاركين في هذا التنسيق في عزل موسكو على الساحة الدولية ، فكثيرون في الغرب لا يفهمون الشعبية التي يحظى بها هذا الشكل من التعاون ، وهذه هي المشكلة الرئيسية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي: إنهم يركزون على أنفسهم ويتجاهلون الحقائق العالمية.
الاعلام الغربي يحاول إضفاء اللهجة التصادمية بين أعضاء بريكس والغرب ، وانهم يعتزمون في قازان إثبات أن “الغرب هو المعزول في العالم بعقوباته وتحالفاته” ، في حين تدعم “الأغلبية العالمية” من الدول مجموعة البريكس في رغبتها في “تحدي القيادة الأمريكية العالمية” ، ومع ذلك، فإن مثل هذه النظرة الغربية البحتة لأهداف التوحيد تبدو “دوغمائية” وتصادمية للغاية ، وأكد أعضاء البريكس، على العكس من ذلك، إحجامهم عن تحويل الجمعية إلى كتلة مناهضة للغرب ، وإن تعاون مجموعة البريكس يتجاوز الصيغة القديمة للتحالفات السياسية والعسكرية، والتفكير القديم، والمفاهيم التي عفا عليها الزمن مثل “أنت تفوز، وأنا أخسر”، و”الفائز يأخذ كل شيء” ، ولم يؤد توسع البريكس ، إلا إلى تعزيز فكرة أن هناك مكانا للجميع في العالم، بغض النظر عن الحجم الاقتصادي أو حجم السكان أو الموقع الجغرافي ، ونجحت روسيا في كسب تأييد بلدان “بريكس”، في إعلان قازان لدول المجموعة، مجددا التزامها بالتعددية ، وبالحفاظ على الدور المركزي للأمم المتحدة في النظام الدولي ، وأن “التعددية القطبية يمكن أن تسمح للبلدان النامية وبلدان الأسواق الناشئة بتوسيع فتح إمكاناتها البناءة وضمان للجميع العولمة والتعاون الشامل والعادل والمنصف والمفيد” ، والتشديد على التزامهم بالتعددية واحترام القانون الدولي، بما في ذلك الأهداف والمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، كعنصر أساسي
لا يتجزأ منها، والحفاظ على الدور المركزي للأمم المتحدة في النظام الدولي ، الذي تتعاون فيه الدول ذات السيادة لصالح الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وبذلك اسقطوا مايروجه الغرب من ان المجموعة تروج لنظام عالمي جديد لا يرتكز على مبادئ الأمم المتحدة
أذن القمة هي لحظة انتصار لمضيفها الرئيس فلاديمير بوتين ، ورسالة قال فيها إنه على الرغم من المحاولات الغربية لعزل روسيا بسبب الوضع في أوكرانيا، فإن روسيا اليوم تشارك أيضا في قيادة حركة تقدمية ستحدد النظام العالمي الجديد ، وان بريكس أظهرت ، أن الأغلبية العالمية لم تعد تتحمل الحياة في ظل إملاءات الولايات المتحدة وأكاذيب الدعاية الغربية.