الحرب على غزة بين الديمقراطية المقدسة والديمقراطية الانتقامية… الولايات المتحدة الامريكية ومحنة انتخابات 2024 الرئاسية
كتب / د. سوسن إسماعيل العسّاف
يعيش العالم حالة فريدة من نوعها تتأرجح بين اللاإنسانية واللاإستقرار. فألاحداث في الشرق الاوسط تتسارع بشكل مذهل مع إستمرار الحرب الاسرائيلية البشعة على غزة وبشكل لم تشهده اي مرحلة تاريخية سابقة سواء من ناحية طول مدتها أو بتخطيها للقواعد القانونية والإنسانية الدولية بإرتكاب إبادة جماعية بصمت عربي إسلامي دولي عالمي، أو لطبيعة الصمود الاسطوري والقتال التكتيكي القائم الذي تبديه المقاومة الفلسطينية واللبنانية بعد توسيع نطاق هذه الحرب من دون التمييز بين المعتدي والمُعتدى عليه، أو عدم وصول الردع الى مرحلة الاجهاض في المناوشات المباشرة الايرانية-الاسرائيلية وباتت مفتوحة ومترقبة، أو حتى في المواقف البراغماتية المنافقة وتلك الخجولة التي ابداها المجتمع الدولي بكل تنظيماته ومؤسساته وقراراته ألاممية غير الملزمة وتعهداته غير الواجبة التطبيق ودعواته الصورية لوقف أطلاق النار حتى أصبح الفشل في وقف نزيف الدم ونشر السلام هو الواقع.
أما في ذلك الركن البعيد من العالم المتمثل بالولايات المتحدة التي لم تفقد حياديتها في هذه الحرب فقط، وإنما غضت البصر والبصيرة عن القضايا الانسانية العادلة، وتعاملت مع مايجري من كوارث وجرائم في غزة على أساس أن الحليف القوي (إسرائيل) يدافع عن نفسه ويحمي مصالحها في الوقت نفسه، غير مكترثة بالنتائج الدموية والمذابح اليومية الجارية. وإذا كانت الحسابات المصلحية الأمريكية قد تطلبت تجاهل ما يجري في غزة، إلا إن الوقائع تثبت حقيقة ان هذه القضية موجودة وبقوة في الاجواء الإنتخابية التي تعيشها الولايات المتحدة الان بين الجمهوري (دونالد ترامب) والديمقراطية (كاميلا هاريس)، بالتزامن مع كومة من التناقضات السياسية والاقتصادية الداخلية، وكل ما تحمله من أثار سوسيولوجية وسايكولوجية على الفرد الامريكي وصوته الانتخابي ليوم 5/11. هذا الحدث الذي تجلت فيه ابهى صور التشكيك التي تحيط بمصداقية الديمقراطية الامريكية (المقدسة) كما وصفها جو بايدن، أو الخوف من (الديمقراطية الانتقامية) المرتقبة التي يتوقعها الكثيرون، ناهيك عن زعزعة ثقة الناخب نفسه بخياراته وبقدرته للتعبير عن ارادته وانعكاسات ذلك على عقدة التفوق التي يشعرون بها وسطحية التفكير التي تُظهِرُها استطلاعات الرأي بصعودها وهبوطها المستمرين. وهذا كله دعا محللاً سياسياً بريطانياً يكتب مقالاً (ديلي تلغراف) بعنوان “ستكون معجزة اذا ما نجت الديمقراطية الأمريكية من هذه الانتخابات”، وهو ما اكده استطلاع (معهد جورج تاون) بأن 81% من الامريكيين يعتقدون أن ديمقراطيتهم مهددة، يعني القادم مجهول. ومن ثم يأتي الواقع بفرضية محاولات اغتيال ترامب، وتذكير مناصري ترامب بالادانات الموجة اليه، وتصاعد حدة خطاب الكراهية والعنصرية الذي شاع بين المرشحين في حملاتهم الانتخابية وخصوصاً في الولايات المتأرجحة ورفع سقف وعودهم والتزاماتهم بشكل عالي، رافقهُ توعدات بلهجة التهديد وصلت الى حد اعتبار ترامب منافسيه من الديمقراطيين بأنهم أعداء الداخل الخطيرين، وتشكيك بالعملية الانتخابية اذا ما جاءت عكس ما يتمناه، أو الادعاء بوجود تدخلات خارجية مثل روسيا لصالح ترامب وإيران لصالح هاريس، او التحذير من الدخول في مرحلة عنف وفوضى غير محسوبة النتائج تنشر الهلع وقد تستدعي تدخلاً عسكرياً.
هذا كلهُ دفع شخصيات سياسية بارزة في الولايات المتحدة الى ان تخرج عن صمتها وتجاهر بقلقها، واخرى أعلنت إنحيازها الى مرشح معين وتدعو الناخبين للتصويت له. والمفاجأة أن بعض هذه المواقف كانت عكس إنتماءات هذه الشخصيات الحزبية، فمثلاً اعلن نائب الرئيس جورج بوش الابن الجمهوري الاسبق ديك تشيني، (أحد ابرز دعاة احتلال العراق)، بأنه سيصوت لهاريس ودعا الامريكيين الى وضع الولايات المتحدة فوق نطاق التحزب من اجل القانون والدستور، مبيناً أن ترامب يمثل أكبر تهديد لهما. وانضمت إبنته النائبة في الكونكرس سابقاً ليزا دتشيني الاخرى الى حملة هاريس ودعت الناخبين في ولاية ميشغن، التي تضم اغلبية من العرب والمسلمين، للتصويت لهاريس دون اهتمام بطبيعة العلاقة التي تجمع غزة بأبناء تلك الولاية. أما كونداليزا رايس (الجمهورية ايضا)، وزيرة الخارجية الأسبق وصاحبة نظرية (الفوضى الخلاقة في العراق)، والتي وقفت بالضد من ترامب في انتخابات 2016، فهي لم تعطِ رأيا صريحا بشان هذه الانتخابات ولكنها اعلنت وقوفها بالضد من مبدأ الانعزالية أو الامريكية الذي يدعو له ترامب ونائبه. وفي الوقت الذي قرر فيه الرئيس الأسبق بوش الابن (قائد الحروب المفتوحة واللامتناهية في العراق وافغانستان) عدم ابداء رأيه إلا إن ابنته بربارا بوش اعلنت في أهم ولاية متأرجحة (بنسلفانيا) بأنها ستعطي صوتها الانتخابي لهاريس. الجنرال البحري ورئيس الاركان السابق جون كيلي بدوره قال بأن ترامب غير لائق للحكم. أما الرئيس الأسبق الآخر باراك أوباما (الذي وقع اطول اتفاقية تلزم امريكا بإمداد اسرائيل بالاسلحة الاكثر تقدماً تكنولوجياً لعشر سنوات) فقد إستخدم حرب غزة من منطلق محاكاة دينية مخاطبا المسلمين “إذا كُنتَ مسلماً أمريكياً ومنزعجاً مما يحدث في الشرق الاوسط، فلماذا تضع ثقتك في شخص أصدر حظراً على المسلمين [ترامب]”، متناسياً أن هاريس نائبة الرئيس في الادارة التي ترسل المساعدات والامدادات المالية والتسليحية لاستمرار الحرب والتدمير في غزة ولبنان، هذه المواقف تؤكد بان الولايات المتحدة غير أبهة بالحرب الجارية لانها تبقى قضايا لا تشغل بال السياسيين والنخبة الحاكمة مقارنة بشأنها الداخلي.
هناك إشارات بان حظوظ ترامب في العودة الى ولاية ثانية تبدو اكثر إعتمادا على الطبيعة المجتمعية اللاعقائدية-المصلحية. فهناك من يرى أن الاقتصاد مع ترامب سيكون أفضل وقرارات الهجرة والتهجير ستعيد أمريكا للامريكيين، وهناك من يرى أن الصراحة التي ينتهجها في كلامه (حتى وإن كانت غير دبلوماسية) أفضل من المراوغة والوعود الكاذبة التي يطلقها الديمقراطيين داخلياً وخارجياً! وهناك من وضع المخاوف الامنية تبريرا لتجنب عنف محتمل قد يطال امريكا ويسقط هيبتها العالمية بعد تهديد ترامب برفض أية نتيجة ليست في صالحه. من ناحية اخرى فأن خسارة الطبقة الشبابية التي ساهمت في الاعتصامات الجامعية للوقوف مع غزة تسببت في تراجع شعبية الحزب الديمقراطي عموما ورفض سياسته الداعمة بدون تحفظ لأسرائيل. ناهيك عن القلق من العقاب الذي توعد به ترامب ولايات المهجرين وتخوفهم من أن تكون دوائرهم في خطر هي الاخرى اذا ما صوتت لهاريس. وفوق كل ذلك هناك تسأول أن هيلاري كلنتون، والتي كانت أكثر شعبية من هاريس ومن نفس لون وعنصر ترامب لم تستطع الوصول لرئاسة البيت الابيض فهل يمكن لهاريس ان تنجح في المهمة؟ فالمجتمع الامريكي لا يخلو من مجاميع مازالت غير متقبلة لفكرة وصول امرأة لمنصب الرئيس. لكن الانتخابات الأمريكية اظهرت في حالات مختلفة بانها تحتفظ بالمفاجئات حتى آخر لحظة!!!ولعل استطلاع (التايمز واليوكوف) الاخير 1/11 أي قبل اربعة أيام من الانتخابات هو خير دليل، اذ أظهر احتمالية فوز هاريس بفارق ضئيل على ترامب.
على الرغم من ان نتائج الانتخابات هذه لن تؤثر على طبيعة ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية، إلا إن متغيراتها مرتبطة بمفاهيم ثابتة تقوم على ثلاثية المصلحة العليا ودعم الحلفاء وفرق تسد، لكن الأحداث الدولية غير الإعتيادية اثارت وتثير تساؤلات حول كيف يمكن أن ينعكس فوز ترامب او هاريس على ما يجري؟ وبالتركيز على الشرق الأوسط عامة والمنطقة العربية خاصة فإنها ستبقى في موقف لا تحسد عليه بفوز أي من المرشحين. فكلاهما مُصر على سياسة استمرار تقديم الدعم اللامحدود لإسرائيل بحجة (حقها في الدفاع عن نفسها)، حتى بعد أن تحول (هذا الحق) إلى مجازر بشعة وابادة جماعية منظمة، بإعتراف محكمتي العدل والجنائية الدوليتين. وكان رد واشنطن ان إسرائيل (لم تتخط الخطوط الحمراء في الدفاع عن نفسها)، الامر الذي جعلها شريكة مباشرة في هذه الحرب، ولعل استخدام حق النقض، والوقوف إلى جانب الكيان بصك تسليحي مفتوح وبالمطلق توج بنقل منظومة ثاد بمدربيها مع 2000 جندي الى هناك للحماية والاستعداد للمواجهة، دليل على ذلك. ورغم أن الادارة الحالية، وهاريس جزءٍ منها تتحدث عن حل الدولتين ولكنها لم تعترف بالدولة الفلسطينية، ورفضت حرب الإبادة في غزة وإعادة إحتلالها وتطهيرها عرقيا، وحذرت من منع المساعدات الانسانية وتوسيع نطاق الحرب في محاور اخرى، ولكنها لم تتوقف عن ارسال الاسلحة حتى اللحظة وساعدت في اغتيال كبار قادة المقاومة وظلت تسير على نهج المراوغة في وقف اطلاق النار تحت مبرر إن إسرائيل خرجت عن السيطرة. ومن المتوقع أن تستمر هذه السياسة البايدنية على ذات المنوال للسنوات الاربعة المقبلة إذا فازت هاريس مع الفارق (لم تعلن هاريس بأنها صهيونية)، وستواصل الحديث عن حل الدولتين وتحريك عمليات التطبيع، خصوصاً وأنها أعطت الانطباع بعدم اللجوء الى خيارات تزيد من الحروب او التوترات في المنطقة، وستعمل على تضييق الخناق على محور المقاومة في العراق واليمن ولبنان بالتفاوض مع إيران تارة وبتشتيت قادتها تارة اخرى. ومع كل مواقفها بالضد من ايران إلا إنها مع سياسة إحتوائها اكثر من تدميرها، والعودة الى المفاوضات النووية وتحقيق منطقة خالية من السلاح النووي. والسؤال هو كيف سيكون الحال إذا ما سيصطدم هذا التوجه مع إصرار إيراني لإمتلاك السلاح النووي؟
تميل الثقة الشعبية الامريكية في إيجاد حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الى ترامب اكثر من هاريس. وهذه الأراء تمثل معضلة كبيرة للمنطقة استنادا الى فترة حكم ترامب السابقة، والتي كان فيها من أكثر المتشددين في دعم اسرائيل. فقد قام بنقل السفارة الأمريكية الى القدس المحتلة، ويكرر أنه لو كان في البيت الابيض لما حدثت 7 أكتوبر في إشارة الى سلسلة عمليات التطبيع التي جرت في عهده وصفقة القرن التي كان يريد تنفيذها بإعتبارات مصلحية امريكية-إسرائيلية، وتبعية عربية. ولكن هذه المرة يبدو ان رؤيته ستكون أشرس حيث دعى الى ضرورة توسيع إسرائيل وضم اغلب المناطق التي إحتلتها في عام 1967، مع ترك منطقة صغيرة معزولة لإقامة (دولة فلسطينية) خاضعة لإسرائيل، وسيسعى بكل ما اوتي من قوة لتوسيع ما عُرِف بحملة (التطبيع) بدليل ان صهره كوشنر قد بدا التحرك في هذا المجال، وأكد على مشروع الشرق الاوسط الجديد التي تكون إسرائيل اساسه. كما يعول ترامب على العلاقات الامريكية الخليجية وإثارة المشاكل الطائفية في العلاقات العربية-الايرانية لتغيير الشرق الاوسط بإعادة ترتيب موازين القوى الاقليمية وتحجيم إيران. فقرار ترامب بالانسحاب من إتفاق 2015 النووي مع ايران وتشديد العقوبات عليها لمنعها من تمويل برامجها النووية والتسليحية والصاروخية، سيأخذ صداه على المدى القريب، لا سيما وأنه انتقد إدارة بايدن لتخفيفها من العقوبات وخصوصاً صفقة تبادل الاسرى مقابل الارصدة الايرانية المجمدة التي جرت في 2023، وبالتالي فان توسيع نطاق هذه العقوبات ستكون من اولوياته، وسيشدد على إستراتيجية التهديد بتوجيه ضربات لبرنامج إيران النووي والصاروخي. وتشير بعض الدلائل أن ترامب سيعيد تقليل انتشار القوات الامريكية، مع تفعيل نظام الخصخصة الامنية العسكرية لضمان أمن وسلامة القوات والقواعد الأمريكية هناك. علماً أن شخصية ترامب القلقة قد تفاجئ أكثر مما تخطط، فوقع صدمة طوفان الاقصى عليه جعلته ينتقد نتنياهو وأجهزة حكومته المخابراتية وفشلها في توقع أو كشف هذه العملية، مذكراً بمواقف نتنياهو السابقة عندما تنصل من عملية اغتيال القائد قاسم سليماني التي اقدم عليها ترامب، وكذلك تهنئة نتنياهو بايدن بعد فوزه بالرئاسة في وقت شكك ترامب بنتائج الانتخابات!!!
ومع كل ذلك ألا إن المشكلة الاهم والتي ستواجه ترامب وهاريس هي كيف سيتعاملان مع الموجة الشعبية العالية المناهضة للولايات المتحدة التي عمت العالمين العربي والإسلامي، بعد احداث غزة ولبنان، خصوصاً الفواعل العقائدية التحررية من غير صفة الدولة (حركات المقاومة) والتي تمثل تهديدا حقيقيا لوجود إسرائيل، وبنفس الوقت تكتسب تضامن شرائح كبيرة تؤمن بالمقاومة وعدالة القضية الفلسطينية. والمشكلة الثانية تتمثل في رفض اسرائيل كل حل يضمن إقامة دولة فلسطينية، هذا هو المأزق الكبير الذي سيواجه كل من سيحكم البيت الأبيض اذا ما ظل متمسكا بسياسة الدعم اللا متناهي للإحتلال الإسرائيلي. لقد اثبتت كل الحلول الترقيعية، بما فيها الإستخدام المفرط للقوة فشلها، وان موجات العنف ستتصاعد، وان إسرائيل ستظل عاجزة عن فرض نفسها بالقوة في المنطقة، وهذا المنطق يحرج حتى أنظمة المنطقة ويضعها امام تهديدات خطيرة، كما انه يجر الولايات المتحدة الى الانغماس المباشر في الحرب القائمة او اية حرب مستقبلية.