النموذج الأمريكي – الغربي يحمل في جيناته الكثير من العيوب المدمرة
كتب / د. طارق ليساوي
حاولت من خلال المقال السابق العودة بالقراء الأفاضل للسيرة النبوية الشريفة و إستحضار بعض أوجه الأذى و التشويه و الشيطنة التي تعرض لها نبينا محمد عليه الصلاة و السلام و صحابته، و نفس المنهج و الأسلوب و المنطق نلاحظه في التعامل مع المقاومة الفلسطينية و شعب غزة و فلسطين ، فهذه الطائفة المؤمنة و الحاملة للواء الحق و مقاومة الاحتلال ، تتعرض بدورها للترهيب و الترغيب، و تتعرض لكل أشكال السب و القذف ، و أساليب الشيطنة و التشويه ، و إتهام المؤمنين بالمقاومة و بيئتها الحاضنة و الداعمة بالضلال و غيرها من الأباطيل، و كما تعرض النبي عليه الصلاة و السلام و المسلمون الأوائل للحصار في شعب لأبي طالب ، كذلك تتعرض غزة و مقاومتها الباسلة للحصار و التجويع و التهجير القسري ، و الفرق بين جاهلية الأمس و اليوم أن جاهلية الأمس رغم ظلالها إلا أن أنها كانت حاملة لقيم المروءة و الشهامة ..
تيار مقيت و سام:
فسنة النبي محمد عليه الصلاة حبلى بالأدلة و الحجج الداعمة للمقاومة الفلسطينية و المحفزة و الداعية إلى ضرورة دعمها بكل الوسائل و أن الوقوف بجانبها و نصرتها فرض عين على كل مسلم و مسلمة ، و هذا عكس ما يدعيه بعض شيوخ السلفية من أن المقاومة بدعة و خروج عن ولي الأمر “نتنياهو الذي تنكح نسائه” على حد تعبير أحدهم ، و كلامي هذا اوجهه لتيار مقيت و سام لا يختلف في تأثيره السلبي عن تيار الصهاينة، هذا التيار الدخيل على الأمة و المُسْتَنْبَت في أجهزة مخابراتية و لغاية بعينها، خرج ليشن حملات عشواء على شهداء الأمة و حرائر غزة و أحرارها، هؤلاء الشهداء الشرفاء و الأبطال بشهادة العدو الصهيوني و صحافته و أكاديميه، و بشهادة الصحافة الأمريكية بجلال قدرها، و التي نشرت على صفحاتها مواد و مقالات و قصاصات إخبارية تشيد و تنوه ببطولة الشهيد السنوار رحمه الله، و دفاعه عن وطنه و شعبه ضد الاحتلال الصهيوني..هذه الصحافة الأمريكية لو نشرت مقال لكاتب مغمور أو إعلان ممول يشيد بملك أو أمير أو رئيس عربي، لكتبوا هذا المقال بأحرف من ذهب و علقوه على شاشات كبيرة في مداخل المدن و الساحات العامة و لدرسوها للأجيال الصاعدة لعقود..!!
سحرة فراعنة العصر:
ad
فهؤلاء المداخلة و المتخاذلين و شيوخ السلطان ، و سحرة فراعنة العصر، لا يختلفون عن ذهنية “فرانسيس فوكوياما” الذي أبهرته القوة الأمريكية ووضعت على عينيه غشاوة أنسته ملايين اليابانيين الذين ذهبوا ضحية للقوة العمياء و الوحشية الأمريكية القائمة على الإبادات الجماعية للشعوب المستضعفة و المغلوبة ..
قد تكون في النموذج الأمريكي- الغربي حسنات و مزايا ، و لكنه نموذج يحمل في جيناته الكثير من العيوب و الأمراض المزمنة التي تهدد وجوده أولا، ووجود الإنسانية جمعاء ثانيا، و لا يمكن لهذا النموذج القائم على فلسفة القوة و الحرق و التدمير و الإبادة، أو لغيره من النماذج مصادرة حق باقي الشعوب و المجتمعات الإنسانية في صياغة نماذجها التنموية و الحضارية انطلاقا من ماضيها و قيمها أو اقتباسا من عدة روافد حضارية و ثقافية دون إكراه أو إجبار أو إغراء أو إغراق في الديون و المشاكل و الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية و غيرها ..
مجموعة بريكس:
و ينبغي في هذا السياق الإشادة و التنويه بجهود مجموعة بريكس و التي تحاول البحث عن بديل للنظام العالمي القائم و الذي وصل نهايته ، و انكشفت عوراته و سوءاته على أرض غزة العزة..فقد سقطت أقنعة الديموقراطية و حقوق الانسان و المساواة و غيرها من الشعارات الكاذبة و الزائفة..فالموضوع الرئيسي الذي يوحد أعضاء هذه المجموعة هو خيبة أملهم في مؤسسات الحوكمة العالمية التي يقودها الغرب، وخاصة الاقتصادية منها حيث أثارت العقوبات المفروضة على روسيا بعد حربها على أوكرانيا عام 2022 ذعر العديد من دول الجنوب العالمي، التي شعرت بالقلق من أن الغرب قد يستخدم أدوات التمويل العالمي كسلاح ضدها.
المعايير الغربية المزدوجة:
وفي أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة والمساعدة الأميركية بالسلاح، استغلت روسيا والصين هذه المشاعر المعادية للغرب بشكل أكثر فعالية، مستفيدة من الإحباطات الناجمة عن المعايير الغربية المزدوجة وكذلك استخدام العقوبات والإكراه الاقتصادي..و للحد من أدوات السيطرة الأمريكية و الغربية تسعى مجموعة البريكس لتقليل اعتماد أعضاءها على الدولار ونظام “سويفت “، في مقابل تعزيز استخدام العملات الوطنية بشكل أكبر في التجارة البينية ..
وأرى أن جهود مجموعة بريكس، جهود محمودة وإن كانت لازالت محدودة التأثير، لكن هذه التجربة تستحق التنويه و خاصة مع إستمرار المجموعة في التوسع، فقد أعربت مجموعة من الدول عن رغبتها في الانضمام و من التايلاند و ماليزيا و تركيا..
الثلاثي الأوراسي :
كما أن تجربة المجموعة مهمة و ملهمة و خاصة من زاوية برغماتية و عقلانية مكونات مجموعة بريكس و خاصة الثلاثي الأوراسي “الصين و الهند و روسيا”، فهذه البلدان بينها خلافات تاريخية و دخلت فيما بينها في حروب بخاصة الصين و الهند، لكن مع ذلك نجحت في تغليب المصالح المشتركة فبرغماتية قيادة هذه البلدان و مرونتها مكنتها من صناعة تحالفات بناءة، فقيادات البلدان المؤسسة للمجموعة تخدع لمنطق المصالح المشترك و تغلب التعاون على الصراع و الصدام..
عدوى البرغماتية و العقلانية:
و نأمل أن تنتقل عدوى هذه البرغماتية و العقلانية لبلداننا العربية و المغاربية، و تعمل على تجاوز خلافاتها الشكلية أو المصيرية أو صفها بما تشاء، لكن من الصعب الانتقال إلى هذه المرحلة المتقدمة من التفكير الاستراتيجي و التوافق، ما دامت شعوب المنطقة غائبة أو مغيبة، و جزء من النخب يطبل للباطل و يشجع على الانحدار بإتجاه الهاوية في مشهد يذكرنا بسحرة فرعون..للأسف الوضع في أغلب بلداننا العربية مثير للقلق ، و الاستمرار في سياسات التسويق و التسويف لا يقود إلا لمزيد من التدهور …
متطلبات المرحلة:
و غزة كشفت حجم الضعف و الوهن في النخب و القواعد الشعبية، فالمرحلة الراهنة تتطلب العمل على تطهير الصف الوطني بكل بلدان العالم الإسلامي، ممن يحملون جينات التبعية و الانهزامية و الاستيلاب الحضاري و الانبهار بالقوي و الغني، المرحلة الراهنة تستدعي و تقتضي تغليب كفة الحاملين لجينات الثورة و الانتفاضة و المقاومة للمحتل الأجنبي و العميل الداخلي، المرحلة تقتضي العودة للجذور و الأصول و التمييز الصارم و الواضح بين الصالح و الطالح و بين المقاوم و المتصهين، و الأصيل و اللقيط، و الوطني و المرتزق، فالأوطان لا تبنى بالرقص و المهرجانات و التسول للأجنبي ، و لكن بالصدق و الأمانة و المكاشفة و الاصطفاف بجانب المستضعفين و عدم الرقص على جراحهم و تحويل مأسيهم لمغانم و مكاسب ..
و سيرة المصطفى عليه الصلاة و السلام تعلمنا العديد من الدروس و الإستراتيجيات للتعامل مع الواقع و متغيراته، و نحن اليوم في أمس الحاجة للعودة لهديه عليه الصلاة و السلام، لرسم خارطة طريق للخروج من حالة التيه و الوهن و الخضوع للأجنبي و لأعداء الامة و الدين ، و المقاومة الفلسطينية تعبير و تجسيد عملي لسيرة النبي و صحابته، و إعادة إحياء لمنهجهم المقاوم و المجاهد من أجل إعلاء كلمة الحق و نصرة المستضعفين من النساء و الولدان ..
الإستراتيجي الأول :
وحينما نتحدث عن عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والأسوة الحسنة، فما كان يعزم على أمر إلا وقد خطط له تخطيطًا محكما، بعد أن يطلب المدد الرباني والعون الإلهي، والقارئ لأحداث السيرة النبوية المطهَّرة يجد ذلك واضحًا في تصرُّفات النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، وكان صلى الله عليه وسلم على وعيٍ وإدراك بأن عدم التخطيط المحكم لضبط العلاقة مع المحيط بكل مكوناته ومؤثراته سيؤدي حتمًا إلى نتائج غير محمودة ، و لعل غزوة بدر و التي جاءت بعد الهجرة النبوية و الـتأسيس العملي و الواقعي لدولة الإسلام التي ستنجح في وقت قياسي في التمدد عموديا و أفقيا و إسقاط بنيان النظام الدولي القائم أنداك ، و بلغة العصر نظام الثنائية القطبية الذي تميز بهيمنة دوليتين الفرس و الروم.. و حتى لا أطيل عليكم سأرحل النقاش للمقال الموالي إن شاء الله تعالى .. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.