الثقافة الوافدة: ولادة غير طبيعية وأزمة هوية..!
كتب / د. عامر الطائي ||
حين ننظر إلى مسار الثقافة المعاصرة في أوطاننا، نجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة، هي أشبه بولادة غير طبيعية، نتجت عنها أزمة هوية ثقافية تعصف بأوساطنا الفكرية والمجتمعية.
فقد نشأت هذه الثقافة، في الأصل، في بيئات بعيدة عن واقعنا وقيمنا، ونُقلت إلينا كما يُنقل العضو إلى جسد غريب، دون أن يُنظر في انسجامه مع هذا الجسد، ودون أن يُطرح السؤال الجوهري: هل نحن بحاجة إليها؟
إنّ الثقافة، في أصلها، ليست قالباً يُستورد، ولا وعاءً يُعبّأ فيه ما يُنتج في مجتمعات أخرى. إنها روح تنبثق من القيم التي تترسخ في وجدان المجتمع، ومن تراثه الممتد في الزمان.
ومع ذلك، أُغري كثير من مثقفينا ببريق الثقافات الوافدة، فاستعانوا بها دون أن يراعوا طبيعة الانسجام بين هذه الثقافات الوافدة وبين تراثنا الحضاري.
لقد أدّى هذا النقل العشوائي إلى تناقضات واضحة في مجتمعاتنا المثقفة، حيث برزت حالات من القطيعة بين الدين والسياسة، وبين الدين والعلم. هذه القطيعة، على ما يبدو، لا تمتّ إلى ثقافتنا بصلة، بل استوردناها من تجارب مجتمعات غربية عاشت صراعاً تاريخياً مريراً بين الكنيسة الكاثوليكية والعلم، وبين السلطة الدينية والسياسية.
ذلك الصراع كان له مبرراته في بيئته وظروفه، لكنه لا يمتلك أي مبرر في ثقافتنا الإسلامية، التي قامت منذ بداياتها على الانفتاح والتعارف والعقلانية.
إن الإسلام، منذ نزول الوحي، لم يُعارض العلم يوماً، بل دعا إلى طلبه حيث قال النبي، صلى الله عليه واله وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”.
كما أنّ القرآن الكريم فتح الباب واسعاً أمام الحوار، ودعا الناس إلى اتباع الأحسن من القول والعمل: “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”.
لكن للأسف، نجد اليوم أنفسنا في حالة من الانفصال بين ثقافتنا وتاريخنا، وبين هويتنا وحاجاتنا. وهذه الحالة ليست سوى نتيجة مباشرة لذلك التناقض المستورد، الذي غرس جذوره في تربتنا دون أن تكون له صلة حقيقية بجذورنا الفكرية والأخلاقية.
إنّ العودة إلى أصالة ثقافتنا لا تعني الانغلاق على العالم، بل تعني الانفتاح الحقيقي القائم على التمييز بين ما يناسبنا وما لا يناسبنا، بين ما يثري قيمنا وبين ما يهددها. لا بد أن نُعيد صياغة علاقتنا بالثقافة المعاصرة، بحيث تكون علاقة انتقاء وحوار، لا استسلام وتبعية.
إن ثقافتنا الإسلامية ليست مجرد هوية تاريخية، بل هي مشروع حضاري ممتد، يقوم على الحوار، وينفتح على العالم دون أن يفقد ذاته. وإن أكرمنا عند الله أتقانا، وإن أحسننا استماعا هم من يتبعون القول الأحسن.
فلنتأمل إذن، ولننظر إلى ما بين أيدينا بعين فاحصة، عقلانية، مؤمنة بأنّ التقدم لا يعني التخلي عن الجذور، بل يعني أن تكون الجذور قوائم البناء الذي نصعد به إلى المستقبل.