كوريا الجنوبية و”ثورة رقائق البصل”
كتب / الدكتور وائل عواد
لم يمضِ سوى ساعتين ونصف على قرار رئيس كوريا الجنوبية، يون سوك يول، بفرض الأحكام العرفية وإعلان حالة الطوارئ، حتى استجاب لضغوط الشارع وقرار البرلمان الذي رفض قراره، معتبرًا إياه غير شرعي في دولة يحكمها القانون وتعيش حياة ديمقراطية منذ عام 1979.
ورغم أن الدوافع والأسباب وراء هذا القرار المفاجئ من الرئيس لم تتضح بعد، إلا أنه أثار استغرابًا واسعًا، خصوصًا أنه لا يملك الأغلبية في البرلمان المكوّن من 300 مقعد، حيث يسيطر الحزب المعارض، بقيادة لي جان ميونغ، على 190 مقعدًا، مقابل 110 مقاعد فقط لحزبه الحاكم.
الشعب الكوري فوجئ بهذا القرار الذي صدر في ساعة متأخرة من الليل، مما دفع الآلاف من المواطنين للنزول إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم العارم، والمطالبة بعودة الحياة الديمقراطية في البلاد. بالتزامن مع ذلك، عقد أعضاء الحزب المعارض اجتماعًا طارئًا، في غياب أعضاء الحزب الحاكم، وصوتوا ضد القرار. المثير للدهشة أن بعض أعضاء الحزب الحاكم انضموا أيضًا إلى صفوف المعارضين، في موقف يعكس حجم الرفض لهذا القرار المفاجئ داخل الأوساط السياسية والشعبية على حد سواء.كما دعا اتحاد العمال، الذي يضم 1.2 مليون عامل، إلى اضراب عام مفتوح لاجبار الرئيس التنحي عن السلطة .
من هو الرئيس يون سوك يول
يون سوك يول هو الرئيس الحالي لكوريا الجنوبية، وقد شغل المنصب بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي عُقدت في أبريل/نيسان من العام الجاري بفارق ضئيل، مما جعله يواجه تحديات سياسية كبيرة منذ بداية ولايته.
مسيرته المهنية
قبل توليه الرئاسة، قضى يون سوك يول 27 عامًا كمدعٍ عام في كوريا الجنوبية، حيث اشتهر بمحاربة الفساد والرشاوى. لعب دورًا بارزًا في التحقيقات المتعلقة بفضائح كبرى هزّت الأوساط السياسية والاقتصادية في البلاد، مما أكسبه سمعة كمدافع عن الشفافية وسيادة القانون.
التحديات الرئاسية
رغم نجاحه في الوصول إلى الرئاسة، واجه يون سوك يول تحديات كبيرة منذ اليوم الأول، إذ:
ضعف الدعم البرلماني: يفتقر الرئيس إلى الأغلبية البرلمانية اللازمة لتنفيذ سياساته، حيث يسيطر الحزب المعارض، بقيادة لي جان ميونغ، على 190 مقعدًا من أصل 300 في البرلمان.
اتهامات بالفساد: تعرض الرئيس وحكومته لاتهامات من قبل المعارضة، بما في ذلك مزاعم فساد ورشاوى طالت زوجته أيضًا.
سوء الإدارة: اتُهمت حكومته بسوء إدارة الموارد العامة وتبذير أموال الدولة، مما أدى إلى رفض البرلمان لميزانيته، مع مطالبات بخفض الإنفاق الحكومي.
انخفاض شعبيته: مع هذه التحديات، تراجعت شعبية يون سوك يول بشكل ملحوظ، ما قلّص من صلاحياته وقدرته على الحكم بفعالية.
الوضع السياسي
يجد الرئيس يون نفسه محاصرًا بين معارضة قوية تطالب بمحاكمته، ورفض برلماني لخططه الاقتصادية، إلى جانب تدني شعبيته في الشارع. هذه الظروف تُلقي بظلالها على قدرته على قيادة البلاد بفعالية وسط أزمات سياسية واقتصادية متصاعدة.
العوامل الخارجية
لا شك أن التوتر المستمر في شبه الجزيرة الكورية، إلى جانب الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، يُعد من أبرز العوامل التي أسهمت في تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في كوريا الجنوبية. فقد أدت التحديات الأمنية إلى زيادة الإنفاق العسكري بشكل ملحوظ، حيث خصصت الحكومة الكورية الجنوبية مليارات الدولارات لشراء أسلحة متطورة من الولايات المتحدة بهدف تعزيز قدرتها الدفاعية وحماية البلاد من أي هجوم محتمل من قبل كوريا الشمالية.
كوريا الشمالية بدورها صعّدت من لهجتها العدائية، مهددة بشن ضربة استباقية نووية إذا شعرت بأن أمنها القومي مهدد. بيونغ يانغ ترى أن التدريبات العسكرية المشتركة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان، إلى جانب محاكاة سيناريوهات الحرب، تشكل استفزازًا مباشرًا وتهديدًا حقيقيًا لها. هذه التوترات المستمرة تضع كوريا الجنوبية في موقف حساس، حيث تواجه ضغوطًا داخلية للتعامل مع التداعيات الاقتصادية لهذه السياسات الدفاعية، بالإضافة إلى التصعيد العسكري المتكرر في المنطقة.
بيد أن اتهامه للحزب المعارض بالولاء لكوريا الشمالية لم يجد آذانا” صاغية داخل الشارع الذي أجبره على العدول عن قراره بسرعة فائقة .
ثورة رقائق البصل
على الرغم من أن كوريا الجنوبية تعد واحدة من القوى الصناعية الرائدة عالميًا، حيث تحتل مركز الصدارة في إنتاج الإلكترونيات ورقائق أشباه الموصلات ومنتجات أخرى تغزو الأسواق العالمية، إلا أن الوضع الاقتصادي الداخلي يشهد تحديات متزايدة. فقد تراجع معدل النمو الاقتصادي إلى 2.3% فقط، مما يعكس تأثير الأزمات الداخلية والخارجية على الأداء الاقتصادي.
في محاولة لتحسين الأوضاع، قرر الرئيس دعم بعض السلع الاستهلاكية الأساسية، من بينها البصل، لتخفيف الأعباء عن المواطنين. ومع ذلك، أثارت هذه الخطوة موجة من الجدل السياسي، حيث جعل الحزب المعارض من قضية البصل رمزًا لحملته ضد الحكومة. وصل الأمر إلى أن أعضاء الحزب المعارض أحضروا شتلات البصل إلى قاعة البرلمان، في خطوة رمزية تعبر عن انتقادهم لسياسات الرئيس، واعتبارها محاولات غير فعالة للتعامل مع المشاكل الاقتصادية العميقة.
فما بدأ كمجرد رمز بسيط لدعم سلعة استهلاكية، تحول إلى أداة سياسية قوية تحمل في طياتها رسائل عميقة تعكس حالة السخط الشعبي والمعارضة المتزايدة في كوريا الجنوبية. البصل، الذي يرمز عادة للبكاء عند تقطيعه، بات اليوم يمثل دموع الشعب الساخطة على الأوضاع الاقتصادية والسياسية، ودليلًا على قدرة الرموز البسيطة على إشعال ثورات التغيير وإعادة تشكيل المشهد السياسي
هذا المشهد، الذي يمكن وصفه “ثورة رقائق البصل”، يعكس حالة الانقسام السياسي في البلاد، حيث تسعى المعارضة لاستغلال الأزمات الاقتصادية لإضعاف الرئيس وحزبه الحاكم، وسط تزايد الضغوط على الحكومة لتقديم حلول عملية تُحدث فرقًا ملموسًا في حياة المواطنين.
مما لا شك فيه أن كوريا الجنوبية تُعد واحدة من أبرز النماذج الديمقراطية في آسيا، حيث استمرت الحياة الديمقراطية فيها منذ إجراء أول انتخابات حرة وديمقراطية عام 1988. ويعيش فيها حوالي 49 مليون نسمة، يُعتبرون من أكثر شعوب العالم استخدامًا للتكنولوجيا المتطورة، مما يعكس تقدم البلاد في مجالات الرقمنة والابتكار.
كوريا الجنوبية ليست فقط ديمقراطية نابضة بالحياة، بل هي أيضًا قوة اقتصادية كبرى على المستوى العالمي. فقد تمكنت من ترسيخ مكانتها كواحدة من أهم الاقتصادات الرائدة في العالم، بفضل صناعاتها المتقدمة مثل الإلكترونيات، والسيارات، وأشباه الموصلات، التي جعلتها محور اهتمام دولي. هذا النجاح جعلها محط أنظار العالم، وجذب اهتمامًا خاصًا من جيرانها الإقليميين، الذين يتابعون تطورها وتأثيرها عن كثب في المنطقة.
وسوف يدفع الرئيس يون سوك يول ثمن سياساته باهظًا، حيث قد تنتهي حياته السياسية بالتنحي عن السلطة تحت ضغط المعارضة والشعب. “دموع رائحة البصل الإلكتروني”، التي أصبحت رمزًا للاحتجاجات، لن تتوقف عند الرئيس وحده، بل قد تطال العديد من القادة العسكريين والأمنيين الذين يُتهمون بالتقصير في الحفاظ على الحياة الديمقراطية في البلاد.
يأتي ذلك في وقت تواجه فيه كوريا الجنوبية تحديات متزايدة، ليس فقط داخليًا، بل أيضًا خارجيًا، وسط تصاعد التوترات في المنطقة. فالسياسات الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، التي تهدف إلى مواجهة الصين وتقويض نفوذها كقوة عالمية منافسة، تلقي بظلالها على المنطقة بأكملها، وتجعل من كوريا الجنوبية ساحة صراع بين قوى عظمى. وفي ظل هذه المخاطر، تجد سيول نفسها أمام اختبار حقيقي للحفاظ على استقرارها الديمقراطي والاقتصادي، بينما تسعى للتوازن بين علاقاتها مع واشنطن وضرورات التعايش مع جيرانها الأقوياء
ولا تستهينوا بالبصل!
في النهاية، قد يكون البصل بمثابة تذكير بأن التفاصيل الصغيرة قادرة على قلب الموازين في عالم السياسة، حيث يتجلى في قصته قوة الشعب وتأثيره في التصدي للقرارات التي تهدد ديمقراطيته واستقراره.