زجاجة شامبانيا على طاولة أحمد الشرع
كتب / د. لينا الطبال
كتب السفير الفرنسي إريك شوفالييه، قبل أن يُغلق أبواب السفارة الفرنسية في دمشق، بناء على قرار من الرئيس نيكولا ساركوزي في عام 2012، هذه العبارة ” آمل أن يتمكن شخص ما من إعادة فتح السفارة في ظروف جيدة في وطن وجد سبيله إلى السلام والاستقرار”. ترك خلفه زجاجة شمبانيا للاحتفال بيوم يعود فيه السلام إلى سوريا… الأسبوع الماضي تم رفع العلم الفرنسي مجددا على مبنى السفارة الواقعة بمنطقة العفيف، في سوريا متقطعة الاوصال ترهقها النزاعات.
يشهد الموقف الدولي تجاه سوريا تحولا استراتيجيا يعكس إعادة تموضع سياسي واضح، بدءا من مناقشات حول رفع العقوبات الاقتصادية، مرورا بتقديم المساعدات الإنسانية، ووصولا إلى قضايا عودة اللاجئين وإعادة إعمار البنى التحتية…
بل والأكثر إثارة للجدل، هو إمكانية رفع صفة الإرهاب عن منظمة كانت في السابق فرعا لتنظيم القاعدة.
فحين تتبنى القوى الدولية هذه التوجهات يصبح تركيزها منصبا على تحقيق مكاسب آنية، وحين يصبح المنظور البراغماتي هو المحرك الأساسي للسياسات الدولية، فإن القرارات تُتخذ بعيدا عن أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية.
لقد ارسلت الدول صانعة القرار بممثليها إلى سوريا للقاء أحمد الشرع، كما يُطلق عليه الآن، وسط توافق واضح من قبل جميع المسؤولين على تأييده والترويج لصورته كواجهة مستقبلية. وفي نفس الوقت، لا تثير مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو، كمجرم حرب، أي اهتمام لدى هذه الدول.
فمن هو الإرهابي إذن؟ وما هو تعريف مجرمو الحروب؟ وهل تحدد الصفات على الأفعال أو على المصالح السياسية؟
في هذه المهزلة السياسية، تتداعى قيم العدالة الذي يكفلها القانون الدولي. ويدور نقاش جدي حول إمكانية العدالة الجنائية الدولية من الاستمرار. وقد تأتي العقوبات الأميركية عليها أسرع مما هو متوقع، وربما تستهدف كبار مسؤوليها، كما حدث مع المدعية العامة السابقة “فاتو بن سودا”. ورغم قدرة المحكمة على الصمود أمام العقوبات الفردية، فإن استهداف بنيتها المؤسسية هو فعلا كارثة عليها… الاتحاد الأوروبي نفسه لا يحترم قوانينه، فكيف يُتوقع منه أن يلتزم بمعايير العدالة؟
ألا تعتبر هذه الانتقائية في تطبيق القوانين بمثابة نفاق سياسي صريح؟ تسمي هذه الدول حركات التحرر الوطني إرهابا، بينما تمنح الحركات الإرهابية لقب الثوار. وتحول مجرمو الحروب إلى رؤساء شرعيين يُفرش امامهم السجاد الأحمر، ويظهرون على شاشات التلفزة يطالبون بالحرية. تخيل هذا السيناريو: قائد سابق لجماعة ارهابية أصبح الآن الحليف الاستراتيجي للقوى الكبرى… لكن متى تتوقع اللقاء بين احمد الشرع ونتنياهو؟
ثم تسألني: كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف سكتنا على كل هذا الظلم وتعايشنا مع هذا الخوف؟ سأجيبك، لكن هل ستكون مستعدا لتحمل الحقيقة؟….
ازدواجية المعايير التي تلجأ اليها الدول كاستراتيجية لتحقيق مصالحها في أوطاننا، تفرض علينا سياستها دون أي مجال للاعتراض… هل نسيتم كيف بدأت حملتهم ضد كل من وقف مع غزة، بسؤال واحد: “هل تدين حركة حماس؟”…
تبا لهذا العالم..
ولعل اكبر خطر يهدد الشعب اليوم هو محاولة نسف التعددية والعلمانية، الركيزتين الأساسيتين للهوية السورية. “الدين لله والوطن للجميع” أحد أبرز شعارات ثورة 1936، الذي يعبر عن الوعي الوطني بأهمية بناء دولة مدنية تتجاوز الانتماءات الدينية والمذهبية، وتجعل من المواطنة معيارا للحقوق والواجبات، وهو الأساس الذي قام عليه نسيج هذا الوطن.
أجل، سمعتني جيدا: المساس بالتعددية والعلمانية هو المساس بروح سوريا. إنه تهديد مباشر لكل ما بنته الأجيال من تعايش مشترك، وانتفاءهما يعني تحويل الساحة الى بيئة خصبة من التطرف والاستبداد.
الجيش العربي السوري، نموذج لهذه العلمانية، يواجه خطط دمج فصائل وجماعات ضمن منظومة جيش جديد. تضم هذه الفصائل جماعات إيغورية، طاجيكية، أوزبكية، تركمانية، إلى جانب مجموعات سعودية، تونسية، مغربية، وجزائرية وأوروبية أيضا، منذ بدايات الثورة عام 2011، استقرت هذه الفصائل في سوريا، حيث أسست عائلات ومجتمعات خاصة بها، عدا عن تاريخها الحافل بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
لكن كيف سيتم الحفاظ على التعددية والهوية العلمانية للجيش في ظل هذا الدمج؟ وما هي اللغة المشتركة التي ستُستخدم للتواصل مع هذه المجموعات المختلفة؟ … هذا يستدعي التفكير حول ولاء الجيش ومستقبل الهوية الوطنية السورية.
والآن، يتحدثون عن إجراء انتخابات برلمانية في سوريا، تُراعي فيها حقوق الأقليات وصوت النساء وكافة الشرائح. كفى تهريجا! … صدقني أن التغيير الوحيد في سوريا لن يتجاوز حدود تبديل البدلات العسكرية بالملابس المدنية… وفيما تبقى هو خطط مرسومة مسبقا وجاهزة للتنفيذ.
وعن أي سوريا هم يحدثون … لأنه لم يعد هناك سوريا واحدة. بكلمة اخرى لم تعد سوريا موجودة بوضعها الجيوسياسي.
ما تبقى هو أشلاء وطن مقسم: الشمال تحت النفوذ التركي، حيث يتباهى أردوغان بسيطرته عليه ويفتح شهيته للتقدم نحو طرابلس في لبنان ولما لا نحو الموصل في العراق. أما الشمال الشرقي، فهو تحت سيطرت القوات الكردية. ويبقى الداخل بيد التنظيمات والجماعات المسلحة التي يرأسها احمد الشرع.
والجنوب تحت الاحتلال الإسرائيلي… لقد توغلت الدبابات الإسرائيلية لتصل إلى عمق يفصلها 12 كيلومترا فقط عن دمشق. ناهيك عن الغارات الإسرائيلية على سوريا بعد سقوط النظام السابق والتي تفوق بعشرات المرات عدد الغارات التي شُنت خلال 24 عاما من حكم بشار الأسد. لم يحتل العدو الإسرائيلي مترا واحدا من الأراضي السورية منذ عام 1974، لكن بعد سقوط النظام السابق، احتلت جبل الشيخ والمناطقة العازلة في الجولان. إضافة الى تدميرها البنية الدفاعية للجيش، في حين يثبت النظام الجديد يوميا أن الاحتلال الإسرائيلي في سوريا لا يعنيه على الإطلاق!… هذا الصمت على جبهة الجولان المحتل لم يكن ولن يكون مقبولا اليوم أيضا…
لكن لا تقلق كل شيء يتم بإخراج متقن، سوى أنهم قد يواجهون فقط بعض المشاكل التقنية… فخلف الكواليس، يرتبك الغرب من تصاعد نفوذ الجماعات الإسلامية او دخول تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الى الساحة وما قد يجلبه من فوضى وخلط أوراق على الجميع.
هناك مشهد أيضا لا افهمه على الاطلاق هو إعلان أحمد الشرع عن رغبته تطبيق العدالة الانتقالية… حقًا؟ …العدالة الانتقالية؟ هل تعرف ما تعنيه العدالة الانتقالية؟ إنها النقيض التام لهيئة تحرير الشام…انها نقيض الانتقام بكل اشكاله ونقيض مشاهد عمليات الإعدام في الشوارع، ونقيض كل ما مرت به سوريا من أزمات…. العدالة الانتقالية هي خفيفة وشفافة كغيمة في سماء صافية.
كثيرا ما تلجا إليها المجتمعات بعد الحروب أو النزاعات لتصفية النفوس بهدف اعادة بناء الدولة على أسس التسامح والمحاسبة، كما حدث في جنوب أفريقيا بعد حقبة الفصل العنصري، وفي الأرجنتين، وإسبانيا، وتشيلي …
ولكن في مثل حالة سوريا، كيف يمكن الحديث عن عدالة انتقالية في بلد لا تزال أشلاؤه متناثرة؟ هل يمكن لمن ساهموا في تمزيق النسيج الوطني أن يقودوا عملية لترميمه.. بلغت المفارقة ذروتها حين تُرفع شعارات العدالة الانتقالية بينما الأرض محتلة، والقصف مستمر، وقرارات المجتمع الدولي صامتة ومنحازة.
عندما تكون أجزاء واسعة من الأرض محتلة لا يمكننا الكلام عن العدالة الانتقالية… العدالة الانتقالية ليست فقط محاسبة الداخل، بل هي أيضا استرداد الحقوق ومحاكمة المحتل. نحن ما زلنا نبكى سوريا … ونسعى الى خلاصها… ولا نقبل استبدال قمع بقمع آخر، ولا ديكتاتورية باستبداد إرهابي جديد!!
بعد الحرب العالمية الثانية، قررت الدول المنتصرة منع تكرار هذه الفظائع، فأنشأت محكمتي “نورنبرغ” في ألمانيا و”الشرق الأقصى” في اليابان لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب من النازيين واليابانيين.
من يملك حق المحاكمة؟ سؤال لا يزال موضع جدل حتى اليوم، خصوصا أن أميركا، التي ارتكبت إحدى أسوأ جرائم الحرب بإسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، وقتلت 210 الف شخص، خلال ثلاثة أيام، لم تواجه أي محاسبة على تلك الجرائم.
واضيف السؤال الأهم: من هي الجهة المخوّلة حاليا المحاسبة في سوريا؟ هل هي هيئة تحرير الشام؟ أم الشعب السوري؟ وهل ستشمل المحاسبة الأطراف المنتصرة المعروفة أنها ارتكبت بدورها جرائم حرب؟ واي قانون سيتم تطبيقه القانون السوري الحالي؟؟ او سيشرعون قانونا جديدا؟؟
تخيل السيناريو التالي احمد الشرع يقرر اللجوء الى الملاحقات الجنائية، وملاحقة جميع من تلوثت يديه بالدماء، واستردادهم من الدول التي فروا إليها، وسينشر بأقرب وقت قائمة بأسماء كبار المسؤولين المتورطين.
لكن هل ستتوقف هذه الملاحقات عند حدود الثورة السورية فقط؟ أم أنها ستعود بمرجعيتها إلى عقود مضت، لتفتح ملفات ثقيلة مثل “مجزرة حماه” في الثمانينات وتكشف الجرائم والتجاوزات التي ارتُكبت خلال حكم الأسد الأب؟
تشمل عمليات العدالة الانتقالية مجموعة واسعة من الإجراءات، منها تقصي الحقائق والملاحقات والتعويضات، إضافة إلى الإصلاحات الدستورية والقانونية والمؤسسية، وتعزيز دور المجتمع المدني، وإحياء ذكرى الضحايا …اضافة الى الكشف عن المقابر الجماعية، وتقديم الاعتذارات الرسمية، ومنح العفو، وإقامة النصب التذكارية، وتوثيق الجرائم، والأفلام الوثائقية، والابحاث، وإعادة صياغة الأدب وإعادة كتابة المناهج الدراسية وحتى إعادة كتابة التاريخ… هي عملية شفافة تُبنى على أساس مواجهة الماضي، و وحده الشعب السوري يملك الحق في ارساءها، وليس أي تنظيم دخيل فرضته قوى استعمارية على أرضه.
تتسارع الأحداث بشكل لافت، وأحمد الشرع يدفع نحو الامام ويطالب تصديق الحكومة السورية الجديدة على ميثاق روما، لتمكين المحكمة الجنائية الدولية من النظر في الجرائم المرتكبة في سوريا. وعلى الرغم أن اختصاص المحكمة سيقتصر على الجرائم المرتكبة بعد عام 2002، تاريخ دخول الميثاق حيز التنفيذ، إلا أن ذلك لا يهمه مادام المستهدف هو النظام السابق… لكن طبعا، لا أحد بريء من كل ما حدث خلال فترة الثورة السورية. الكل كان له دوره العظيم في الكارثة، من قصف إلى تعذيب، ومن تآمر إلى مجازر وصمت مريب. لا تقلقوا، ستذهبون جميعكم إلى لاهاي.
الوضع في سوريا فوضى مستمرة. فصيل إرهابي يطيح بنظام ديكتاتوري ويعلن نفسه سلطة شرعية، بينما النظام السابق اختفى بكل أدواته وترسانته. في هذا المشهد، يظهر شعب يحتفل بالنصر، وبلده ممزق بين احتلال إسرائيلي، وسيطرة تركية، وفصائل مرتزقة تحوم في البلاد، تجوب الشوارع والمدن. كلنا يدرك أن أحمد الشرع لم يأتي عبر عملية ديمقراطية، بل جاء محمولا على اكتاف تنظيمات وحسابات دولية وخطط إقليمية.
لقد صدمتني رؤية مناضلين في دول أوروبية يرقصون حاملين العلم الذي جاءت به هيئة تحرير الشام، وكأن علم الوحدة السورية، الذي لذي شكل هويتهم منذ ولادتهم، لم يعد يعني لهم شيئا. كيف يمكن لمناضل، أو لاي لإنسان أن يحتفل ويرقص بما يثير فرحا وانتصارا لدى نتنياهو وإسرائيل؟
أن ترقص على أنغام تُطرب عدوك هو أكثر من مجرد خيانة لمبادئك، إنه انحراف خطير عن البوصلة الوطنية. عندما تجد العدو يحتفل معك فكن متأكدا أنك على الجانب الخطأ…
تخيل معي سوريا في عام 2030، أعيد إعمارها، لكن بأيدي من؟ ستكون حتما تحت سيطرة مصالح كل هذه القوى التي قسمتها. اما نحن، فسنحرم من المشاركة بهذا الاعمار… كيف سيُكتب تاريخ هذه الحقبة، ومن سيكتبه؟؟…
وقد يأتي الحل من الجانب الاضعف … من الشعب طبعا… أمام الشعب السوري مهمة واحدة لا تقبل التأجيل: الحفاظ على التعددية والعلمانية، اللتين تشكلان هوية سوريا. فلا يمكن إعادة الروح إلى جسد الوطن إلا بالتمسك بهاتين القيمتين كركيزة لاستعادة سوريا وتوحيد صفوفها.
مازلت لا اصدق أن سوريا سقطت في أقل من أسبوع، ولا نزال نحن في سقوط مستمر، نحو قاع لم نصل لنهايته.
في باريس، تُفتح زجاجات الشمبانيا احتفاء بفترة الأعياد. وانا لا أطيق … وتظل هناك زجاجة شمبانيا في زاوية ما من السفارة الفرنسية في دمشق، تنتظر الحاكم الجديد ليشرب نخب سوريا الغارقة في الحروب والتقسيم، والمنهكة حد الانهيار.