وكأننا كشعوب ومجتمعات فئران تجارب
كتب / كمال خلف
لا يوجد وصفة جاهزة اسمها بناء الدولة نطبقها فتنجح التجربة، لا يوجد خبراء بناء الدول في عالمنا العربي تحديدا. الدولة الوطنية العربية التي بدأت قبل اكثر من مئة سنة مع الحكومة العربية الاولى في دمشق عام 1918، صمم التجربة حينها الغرب (بريطانيا) ثم اطاحت بها فرنسا عام 1920.. كان القومين العرب الاوائل يحلمون بدولة عربية قوية تلحق بركب الحضارة، دولة عصرية مستقلة.. (هكذا وعدوهم) بعد الحرب العالمية الأولى، وزرعوا دعاية مفادها ان الاتراك ليسوا أصحاب البلاد ولا يحق لهم حكمها، وان كل التخلف والفقر والقهر والجمود سببه الباب العالي. لكن ما ان حققوا ما اردوا مدوا لسانهم للعرب الطامحين، وزرعوا في صدرهم خنجر اسمه ” إسرائيل ” ومازال النزيف مستمرا حتى اليوم.
كل اشكال الحكم في بلادنا قديما ومعاصرا هي صنيعة دول غربية ومنذ ذاك الزمن الدول الغربية تطيح بالانظمة، ثم تحاول ان تبني البديل.. غالبا لا تنجح وتتحول الى دولة فاشلة.. وهكذا تتكرر التجربة، وكأننا كشعوب ومجتمعات فئران تجارب.
في العراق اطاح الغرب بصدام حسين ثم ذهبت البلاد الى حرب دموية طائفية لسنوات، وتقسيمات عرقية ومذهبية، مازالت اثارها الى اليوم..
القذافي اطاح به الغرب، ثم فشلوا في تشكيل نظام الى اليوم، والسودان الحرب المنسية وما ادراك ما يحدث في السودان من اقتتال دموي وانتهاكات وتقسيم وتشريد ونهب، السودانيون وعدوا بالديمقراطية والخلاص من الحروب اذا ما اطاحوا بالبشير، زال البشير، وتركت الدول الغربية البلاد لحروب لا تنتهي واداروا لهم ظهرهم.
وقد يدفع احدنا بالقول الدارج هذه ثورات عربية (ربيع) ومطالب الشعوب في الحرية والديمقراطية والدولة العادلة المزدهرة … نوافق على هذا دون تحفظ وهذا ما تطمح اليه شعوبنا المقهورة المهانة في اوطانها.. ولكن هذا يحدث وينجح عندما فقط يريد ويدعم الغرب ذلك، ويسمح ويشجع.. فتنساق الشعوب نحو حلمها في العدالة ورفع الظلم وتغيير الواقع نحو الحرية والحياة الكريمة.. لكنها تصطدم بالاهداف الحقيقة ومصالح الدول المتوحشة، فتجد نفسها غارقة بالفوضى تطلب العون منهم، وهم يفرضون الشروط التي تأمن مصالحهم اولا وبعدها محاولة تجريب وتجريب لبناء دولة او بناء نظام يؤمن تلك المصالح ويحافظ عليها بينما الدولة تبقى هشة وفاشلة …
اتساءل هنا هل سورية ستكون استثناء وامامنا هذا الكم من النماذج في بلدننا.. يسقط نظام قمعي فاسد، ثم ينشأ لا نظام وتحل الفوضى وتسود العصبيات القبلية والطائفية والعرقية، ما الذي يجعل سورية نموذجا معاكسا؟ هل فعلا الحكام الجدد في سورية استوعبوا الدروس السابقة، وممكن تجنب تكرار المأساة أتمنى ذلك من اجل استقرار سورية ورفاهية شعبها الذي تحمل الدمار والفقر وسفك الدم والتهجير على مدار ١٣ عاما.
اشفق على المجتمعات العربية التي تتحطم احلامها، في صدمة الوقوع في شباك الدولة الفاشلة والمزيد من الفقر والفوضى وانعدام الامن، وبالمناسبة اسقاط الانظمة في عدة دول في العالم في مفهوم الدول الغربية لا يرتبط مطلقا بكل الشعارات والدعايات التي تروجها تلك الدول عبر ادواتها واعلامها وعملائها، عن الحقوق القومية، او الاضطهاد، او الاستقلال او التخلص من الاستبداد او الديمقراطية. هذه الأهداف حلم الشعوب بلا شك، اما بالنسبة لأجهزة الاستخبارات الغربية فهي مجرد عدة شغل لإنفاذ سياسات لا علاقة لها بطموحات الشعوب. والدليل ان الولايات المتحدة ومعها بريطانيا اسقطوا سابقة حكومات ديمقراطية لصالح الاستبداد في منطقتنا وخارجها.
خذ مثلا انقلاب حسني الزعيم في سورية عام 1949 الذي هندسته المخابرات الامريكية كأول مهمه لها بعد التخرج من المدرسة البريطانية القذرة، حسب الوثائق البريطانية، والامريكية، كان انقلاب الزعيم انقلابا على الحياة الدستورية والديمقراطية السورية حديثة الولادة وعلى رئيس وحكومة منتخبه بانتخابات حرة، هدف الانقلاب ان توقع سورية اتفاقية الهدنة مع إسرائيل بعد حرب فلسطين عام ١٩٤٨ وتسحب قواتها من عمق شمال فلسطين المحتلة، الدعاية المستخدمة في العملية كانت الفشل في حرب فلسطين، دعاية نفذتها الاستخبارات الامريكية عبر وكلاء يشبهون كثيرا من تتابعونهم في هذه الأيام في وسائل اعلام عربية وفي السوشل ميديا. وفعلا نفذ الزعيم المهمة ووقع اتفاق الهدنة وسحب الجيش، لكن بعد ذلك تُركت سورية لمصير مجهول من الانقلابات العسكرية المتتالية والتصدعات في الحكم والدولة الى ان وصلت الى ما وصلت اليه.
ايضا حسب الوثائق هناك نموذج (عملية اجاكس) في اسقاط الأنظمة بالدعاية والتاثير والتلاعب بالراي العام، في ايران أطاحت المخابرات الامريكية بالحكومة الدستورية وبواحد من ابطالها الوطنيين هو رئيس الوزراء المنتخب (محمد مصدق) عام 1952، واعدامه، اعدمه ابناء جلدته بتهمة بالخيانة، بعد ان كان في نظر الشعب بطل استقلال. وحسب كل الوثائق ومذكرات قائد عملية ( اجاكس) الضابط في الاستخبارات الامريكية. كان ذنب مصدق انه امم النفط ومنع الدول الغربية وتحديدا بريطانيا من نهبه، يقول صاحب المذكرات كيف نشرت الاستخبارات الامريكية العصابات في ايران تسلب وتنهب باسم مصدق حتى انقلب عليه الشعب.
وهكذا تتحول شعوب طامحة للافضل الى دمى، تنساق كالقطيع، لتحقيق مصالح دول خارجية متوحشة وهي تظن انها تحقق اهدافها او تطلعاتها.. انها مأساة امة تم التلاعب بها وصناعة راي عام لها عبر ادوات محلية همها المال والنفوذ، لكن سرعان ما تبتعد وتنأى بنفسها عندما يحل الخراب، وتصطدم المجتمعات بواقعها الجديد الاليم …
لو كانت الدول الغربية والولايات المتحدة يسعون الى تحقيق الديمقراطية والحرية والكرامة للشعوب، لكان أولى ما يطيحون به هو النظام الفاشي النازي في تل ابيب الذي يمارس ابشع احتلال في التاريخ المعاصر، ويبيد شعب كامل على الهواء. ما يفعلونه هو العكس حماية هذا النظام وتأمين كل وسائل القتل له، ومنع أي قوة فلسطينية كانت او عربية تحاول الدفاع عن نفسها.
نحن في العالم العربي ليس لدينا دول مستقلة، شكل دولنا الوطنية وأنظمة الحكم القائمة فيها من مئة عام ليست من ابتكارنا، نظرياتنا الفكرية ليست حصيلة عصف ذهني او انتاج وطني، الإطاحة بالانظمة ليس قرارنا، وان كان قرارنا لا ينفذ او ينجح دون قرار من الدول الغربية، نمط الحكم الجديد الذي نطمح اليه ليس بإرادتنا الحرة، وان نفذناه بارادتنا وجاء مخالفا لمصالحهم يتم شيطنته وتأليب الراي العام عليه حصاره تجريمه ومن ثم اسقاطه.
اليوم كل من يرفع سلاح بوجه إسرائيل للدفاع عن نفسه وارضه واخوته في فلسطين، يتم شيطنته، وحصاره، وتشويهه، وادانته من أبناء جلدته، عبر اعلام مأجور خادم، وعبر نجوم تصدروا الشاشات مهمتهم خداع الشعوب والمجتمعات لصالح الاجندة الغربية وبالتالي الإسرائيلية، وغدا كل من يقف حتى بالكلمة مع فلسطين سيحاصر، ويشوه. انه الزمن الذي قال عنه النبي العربي ” محمد ” القابض فيه على ديني كالقابض على الجمر.
انه العصر العربي الذي يقع في المرتبة ما تحت عصر الانحطاط، لكن دوما لابد من الارتطام العنيف حتى نصحو، لعلنا نحجز يوما مكانا محترما لنا بين الأمم.