
المقاومة تكسر الصدمة.. صنعاء وطهران في قلب المواجهة
كتب / نجاح محمد علي
الحرب التي تُشن على العالم الإسلامي اليوم ليست مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل هي خطة ممنهجة لإضعاف المسلمين وإخضاعهم لإرادة القوى الكبرى.
منذ عقود، تُستخدم استراتيجيات مدروسة لضرب استقلال الدول الإسلامية، وإضعاف مقاومتها، وإجبارها على التخلي عن سيادتها لصالح المشاريع الاستعمارية. أحد أبرز هذه الاستراتيجيات هو مبدأ “عقيدة الصدمة”، الذي يقوم على استغلال الأزمات والكوارث لفرض سياسات غير مقبولة للهيمنة على الشعوب في الظروف الطبيعية.
الولايات المتحدة وداعموها يستخدمون هذا النهج في منطقتنا. لم يكن الغزو الأمريكي للعراق مجرد حرب، بل كان تطبيقًا عمليًا لهذه العقيدة. تم تدمير البنية التحتية، تفكيك مؤسسات الدولة، ونهب الثروات، بهدف خلق فراغ يسمح للقوى الاستعمارية بالتحكم في العراق سياسيًا واقتصاديًا وحتى إجتماعياً لتهديم المجتمع وقيمه وإحلال ثقافات مبتذلة بديلة . لم يكن الهدف فقط إسقاط النظام الحاكم، بل تحويل العراق إلى نموذج للفوضى، حيث تفقد الدولة سيادتها ويصبح شعبها منهاراً عاجزًا عن استعادة قراره المستقل.
ما جرى في العراق تكرر في ليبيا، سوريا ولبنان واليمن، حيث استخدمت الحروب والضغوط الاقتصادية كسلاح لإجبار هذه الدول على القبول بالإملاءات الخارجية.
عندما فشلت القوى الغربية في تحقيق أهدافها عبر الحروب المباشرة، لجأت إلى أساليب أخرى مثل الحصار الاقتصادي، ودعم الجماعات التخريبية، وإثارة النزاعات الطائفية، ونشر ثقافة التفاهة ، وكل ذلك تحت شعارات زائفة مثل “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان،” و المدنية . لكن الحقيقة أن هذه التدخلات لم تكن سوى محاولات لفرض الهيمنة وسرقة الموارد وإضعاف كل دولة ترفض الانصياع للمشروع الاستعماري الجديد.
في ولاية ترامب الثانية، تصاعدت التهديدات الأمريكية ضد إيران واليمن بشكل غير مسبوق. واشنطن لم تتوقف عن فرض العقوبات الاقتصادية الخانقة على إيران، محاولةً خنق اقتصادها وعزلها سياسيًا. لكن إيران لم تستسلم، بل عززت صناعاتها الدفاعية، وطورت تقنيات عسكرية جعلت أي اعتداء أمريكي عليها مكلفًا.
صنعاء كانت ساحة أخرى للصمود والمقاومة. فبعد سنوات من العدوان السعودي-الأمريكي، لم تُركع اليمن، بل أصبحت قوة تفرض معادلاتها. عمليات الردع التي نفذها أنصار الله ضربت العمق السعودي، مما أجبر المعتدين على إعادة حساباتهم. كانت الرسالة واضحة: لا يمكن فرض الاستسلام بالقوة، واليمن لن يكون ساحة مفتوحة للهيمنة الخارجية.
محور المقاومة، بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران، فهم هذه المخططات مبكرًا واتخذ موقفًا صلبًا في مواجهتها. إيران لم تكتفِ بالصمود أمام العقوبات والحصار، بل حولت هذه الضغوط إلى فرصة لبناء اقتصادها، وتعزيز صناعاتها الدفاعية، وتقوية حلفائها في المنطقة. في سوريا، نجحت الولايات المتحدة وحلفاؤها في تكرار السيناريو العراقي، بعد صمود سوري مذهل ، استمر تحو أربعة عشر عاماً بدعم من إيران وحزب الله، وقد أفشل المخطط وأسقط المشروع الإرهابي الذي كان يهدف إلى تقسيم سوريا وتحويلها إلى بؤرة للفوضى، قبل أن يفلح أخيراً ، وتفقد المقاومة حلقة مركزية من محورها بسقوط النظام بطريقة مفاجئة.
في لبنان، تعرضت المقاومة لحملات لا تتوقف، بدءًا من الحصار المالي، وصولًا إلى الضغوط السياسية المتواصلة، فالحرب المباشرة .الهدف واضح: تفكيك قوة حزب الله، وجعل لبنان ساحة مفتوحة أمام النفوذ الصهيوني والأمريكي. لكن كما في كل مرة، فشلت هذه المخططات، لأن المقاومة ليست مجرد تنظيم عسكري، بل هي عقيدة راسخة في وجدان شعب يعرف أن قوته تكمن في استقلاله ورفضه للهيمنة.
الحرب الاقتصادية ليست أقل خطورة من الحروب العسكرية. العقوبات التي تُفرض على إيران و الحكومة اليمنية في صنعاء ، ليست مجرد إجراءات ضغط، بل هي جزء من سياسة تهدف إلى إفقار الشعوب ودفعها للاستسلام. يريدون أن يجعلوا الشعوب تكره حكوماتها، وأن تشعر أن المقاومة هي سبب معاناتها، حتى يقبل الناس بفكرة التخلي عن استقلالهم مقابل تحسين أوضاعهم المعيشية. لكن التجارب أثبتت أن الشعوب التي تصمد في وجه هذه الحرب الاقتصادية قادرة على تحقيق الاستقلال الحقيقي، كما فعلت إيران عندما واجهت الحصار بتطوير اقتصادها الذاتي، وكما فعلت سوريا ، قبل التطورات الدراماتيكية التي انتهت برحيل الرئيس السابق بشار الأسد ، إذ استعادت سوريا قبل سيطرة الجماعات المسلحة عليها، عافيتها رغم سنوات الحرب الطويلة.
الصهيونية العالمية تدرك أن الإسلام، عندما يكون مقاومًا، يصبح العقبة الأكبر أمام مشاريعها. لهذا السبب، يتم استهداف كل دولة أو جماعة ترفع راية المقاومة، سواء كانت في فلسطين، أو لبنان، أو العراق، أو اليمن، أو إيران. يريدون مسح الهوية الإسلامية التي ترفض الاستسلام، واستبدالها بثقافة الخنوع والارتهان للقوى الخارجية. لكن رغم كل الحملات الإعلامية، والضغوط الاقتصادية، والمؤامرات العسكرية، لم تنجح هذه المحاولات، لأن محور المقاومة ليس مجرد تحالف سياسي أو عسكري، بل هو امتداد طبيعي لإرادة شعوب ترفض أن تعيش تحت الهيمنة.
و لقد بات واضحاً اليوم، أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في أضعف حالاتهما. يبدو فشلهم في العراق وسوريا واليمن ولبنان دليل على أن زمن السيطرة المطلقة قد انتهى. فمحور المقاومة لم يعد في موقف الدفاع فقط، بل أصبح قادرًا على فرض معادلات جديدة في المنطقة. وهاهي المقاومة الفلسطينية التي كانت تُحارب بالحجارة أصبحت تملك صواريخ قادرة على تغيير ميزان القوة. و حزب الله الذي كان هدفًا دائمًا للمؤامرات بات اليوم قوة إقليمية يُحسب لها ألف حساب. أما إيران التي أرادوا عزلها أصبحت المحور الأساسي لكل تحركات القوى المقاومة في المنطقة.
السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: أين المسلمون من كل هذا؟ هل سيبقون متفرجين على هذه الحرب التي تُشن ضدهم، أم سيأخذون دورهم الطبيعي في المواجهة؟ لا يكفي التعاطف أو الغضب، بل المطلوب موقف عملي يترجم في دعم حقيقي لمحور المقاومة، سواء عبر الكلمة، أو الموقف السياسي، أو المساهمة في كسر الحصار الاقتصادي. العدو لا يفرّق بين عربي أو فارسي، ولا بين سني أو شيعي، فهو يستهدف كل من يرفض الخضوع لمشروعه. المواجهة اليوم ليست بين دول أو مذاهب، بل بين محور يريد الحفاظ على استقلاله وكرامته، وبين قوى استعمارية تريد أن تجعل من شعوبنا عبيدًا لمشاريعها.
التاريخ أثبت أن الأمة التي تقاوم تنتصر، مهما كانت التحديات. الاستعمار الفرنسي خرج من الجزائر بعد أكثر من مئة عام من الاحتلال لأن الشعب لم يستسلم. أمريكا فشلت في فيتنام رغم كل ترسانتها العسكرية لأن المقاومة هناك لم تتوقف. الكيان الصهيوني اضطر للانسحاب من جنوب لبنان لأنه واجه مقاومة لا تساوم على حريتها. اليوم، نفس السيناريو يتكرر، ومن يراهن على سقوط محور المقاومة يرتكب خطأً كبيرًا. هذه المعركة لن تنتهي إلا بانتصار الشعوب الحرة، لأن من يحمل قضية عادلة لا يُهزم، مهما كانت المؤامرات التي تُحاك ضده.
و يمكن القول بثقة بالغة ، إن الرهان الآن هو على وعي الأمة الإسلامية. لكن هل ستفهم الأمة حقيقة ما يجري؟ هل ستدرك أن ما يحدث ليس مجرد أزمات سياسية، بل حرب وجودية تستهدف هويتها واستقلالها؟ كل مسلم اليوم أمام مسؤولية تاريخية، فإما أن يكون في صف المقاومة والدفاع عن كرامته، أو أن يبقى تابعًا لمن يريدون استعباده. هذه لحظة فاصلة، والتاريخ لا يرحم من يقف في صف المتفرجين.