
حراس الحقيقة… هل لا تزال الصحافة تستحق ثقة الجماهير؟
كتب / داود الجنابي
في زمن تتسارع فيه الأخبار وتنتشر المعلومات في ثوانٍ عبر وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية، لم تعد الصحافة مجرد مهنة لنقل الأخبار، بل أصبحت مسؤولية اجتماعية تفرض على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الالتزام بالدقة والحياد. فالإعلام ليس مجرد أداة تواصل، بل هو قوة مؤثرة قادرة على تشكيل الرأي العام، التأثير في صنع القرار، وكشف الحقائق أو طمسها.
لقد شهد التاريخ مواقف بارزة أكدت أن الصحافة ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل أداة حاسمة في خدمة المجتمع أو تضليله، وفي كلتا الحالتين، كان للدقة والحياد دور جوهري في تحديد مدى مصداقية الصحفيين والتأثير الذي يتركونه.
عندما كشف الصحفيان بوب وودوارد وكارل برنستين في صحيفة واشنطن بوست عام 1972 تفاصيل فضيحة ووترغيت، لم يكن ذلك مجرد تحقيق صحفي، بل كان ممارسة لمسؤولية اجتماعية نبيلة أسقطت رئيسًا أمريكيًا وأكدت دور الصحافة في محاسبة السلطة. كان التحقيق مستندًا إلى دقة المعلومات والبحث العميق والحياد في التغطية، مما عزز مصداقية الصحافة كسلطة رابعة.
في المقابل، رأينا كيف يمكن للإعلام أن يكون أداة تضليل عندما استخدمت بعض وسائل الإعلام الأمريكية معلومات غير دقيقة لتبرير غزو العراق عام 2003، إذ اعتمدت تقارير على ادعاءات خاطئة بشأن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل. لاحقًا، اعترفت بعض الصحف الكبرى، مثل نيويورك تايمز، بأنها لم تتحقق بدقة من المعلومات قبل نشرها، مما أدى إلى حرب كارثية.
هذا يوضح أن الصحافة ليست مجرد ناقل للأحداث، بل هي قوة قادرة على إحداث تغيير إيجابي أو نشر الفوضى، وفقًا لطريقة تعاملها مع الأخبار ومدى التزامها بالمسؤولية المهنية.
في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح انتشار الأخبار أسرع من أي وقت مضى، ولكن في المقابل، زادت المعلومات المضللة والأخبار الكاذبةالتي تهدد استقرار المجتمعات.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان خلال جائحة كوفيد-19، حيث انتشرت أخبار زائفة حول الفيروس واللقاحات، مما أدى إلى نشر الخوف وعرقلة الجهود الصحية. وسائل إعلام كبرى مثل بي بي سي ورويترزاضطرت إلى تخصيص فرق للتحقق من الأخبار الزائفة، مما يؤكد أن الدقة لم تعد مجرد ميزة، بل مسؤولية اجتماعية لإنقاذ الأرواح.
من ناحية أخرى، قدمت الصحافة الاستقصائية نموذجًا مثاليًا للدقة، كما في قضية “وثائق بنما” (Panama Papers) التي نشرتها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين عام 2016. استغرق التحقيق أكثر من عام، وشمل تحليل ملايين الوثائق للكشف عن تهرب ضريبي عالمي ضخم تورطت فيه شخصيات سياسية واقتصادية بارزة.
ما يميز هذا النوع من الصحافة هو أن كل معلومة يتم التحقق منها بعناية قبل النشر، لأن أي خطأ قد يضر بمصداقية الوسيلة الإعلامية ويفقد الجمهور ثقته بها.
الحياد هو من أكثر المبادئ الصحفية صعوبة في التطبيق، لأن الصحفيين بشر يتأثرون بمعتقداتهم وظروفهم السياسية والاجتماعية. لكن في الوقت نفسه، يُتوقع منهم تقديم جميع وجهات النظر بموضوعية، وترك الحكم للقارئ أو المشاهد.
تاريخيًا، لعب الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل النزاعات أو تهدئتها، بناءً على مدى التزامه بالحياد. على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية في رواندا عام 1994، ساهمت بعض وسائل الإعلام المحلية في تأجيج الصراع العرقي من خلال خطاب الكراهية، مما أدى إلى زيادة العنف بشكل مأساوي.
في المقابل، تُعد تغطية بي بي سي للحروب والنزاعات نموذجًا للحياد، حيث تلتزم المؤسسة بمنح جميع الأطراف فرصة لإبداء وجهات نظرهم، مع التركيز على تقديم المعلومات المستندة إلى الحقائق بدلًا من التوجهات السياسية.
ومع ذلك، يُواجه الحياد الصحفي تهديدات متزايدة، خاصة مع ظهور الإعلام الموجه الذي يخدم أجندات سياسية أو اقتصادية. في بعض البلدان، تخضع وسائل الإعلام لضغوط تمنعها من نقل الحقائق بحرية، مما يؤدي إلى فقدان الثقة بالمؤسسات الإعلامية.
مع تطور الذكاء الاصطناعي، دخل الإعلام مرحلة جديدة من التحديات والفرص. تستخدم بعض المؤسسات، مثل رويترز وأسوشيتد برس، الخوارزميات لكتابة الأخبار وتحليل الاتجاهات بسرعة تفوق الصحفيين البشر.
لكن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون سلاحًا ذو حدين، حيث تم استخدام تقنية التزييف العميق(Deepfake) لإنشاء فيديوهات مزيفة لشخصيات سياسية، مما يعزز التضليل الإعلامي.
لذلك، يجب أن يكون للصحفيين دور أكبر في التحقق من الأخبار، وعدم الاعتماد الكامل على التكنولوجيا دون رقابة بشرية. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز الصحافة، لكنه لا يمكن أن يحل محل الحس الصحفي والقيم الأخلاقية التي تضمن الدقة والحياد.
في عالم مليء بالمعلومات، تظل الصحافة سلطة اجتماعية مؤثرة تتحمل مسؤولية كبرى في تشكيل وعي الجمهور. الدقة والحياد ليسا مجرد شعارات، بل مبادئ أساسية تضمن بقاء الصحافة وسيلة موثوقة بدلاً من أن تكون أداة تضليل.
وبينما تتغير الأدوات والأساليب، يبقى دور الصحفي هو التحقق من الحقيقة، تقديم المعلومات بموضوعية، وخدمة المجتمع من خلال كشف الفساد وحماية الحقوق. فالصحافة ليست فقط مهنة، بل هي مسؤولية أخلاقية تفرض على كل من يعمل بها أن يكون صوتًا للحقيقة لا أداة للدعاية والتضليل.