
مُعلَقة الذكاء الاصطناعي
كتب / د . طه جزاع ...
في السيارة التي جمعتني مع الزميلين زيد الحلي وحمزة مصطفى قبل ثلاثة أيام ونحن على طريق بغداد بابل تلبية لدعوة كريمة من الصديق محمد المعموري لحضور افتتاح مضيف والده المرحوم الحاج سكران جبر هندي المعموري في قرية الوردية بمنطقة البو حِمْيَر التي تبعد ما يقرب المائة وعشرين كيلومتراً تقطعها السيارة بأقل من ساعة ونصف، كنا نزجي الوقت بأحاديث متنوعة غلبت عليها الدهشة من أعاجيب عصرنا الرقمي، عصر الانترنت والذكاء الاصطناعي الذي دوَّخ العالم بابتكاراته وبرامجه وتدخلاته في مجمل الحياة اليومية المعاصرة حتى وصل الأمر إلى " أن الذكاء الاصطناعي سيحل في غضون العشر سنوات المقبلة محل الأطباء والمعلمين، ولن يحتاج البشر إلى معظم الأشياء التي اعتادوا عليها، بل وقد يصبح البشر غير ضروريين في معظم الأمور" بحسب آخر توقعات بيل غيتس .
ولأننا مختلفون في رؤيتنا لأمر الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإن الزميل حمزة الذي لا يعجبه عجب هذا الذكاء ويصر على أنه بلا خيال ولا مشاعر، ولا يستطيع أن يولد شيئاً من الشعر، جادلني في استحالة أن يكتب بيتاً شبيهاً ببيت امرؤ القيس قبل ألف وخمسمائة عام في قصيدته التي مطلعها قِفَا نَبْـكِ مِنْ ذِكْـرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ : وَقَدْ أغْـتَدِي والطَّـيْـرُ فِي وُكُنَاتِهَا بِمُنْـجَرِدٍ قَيْـدِ الأَوَابِدِ هَيْـكَلِ
والحق يقال فإن وصف الشاعر لسرعة حصانه " مُنْجَرِد" القوي الضخم، وهو يمتطيه في الصباح الباكر والطيور مازالت في اعشاشها، وصفٌ مذهل، حيث الوحوش البرية " الأوَابِد " تبدو وكأنها مقيدة أمام هذه السرعة الخاطفة، أين ذلك مما يبتكره الذكاء الإصطناعي من مشاعر مصطنعة ؟ . جربتُ فطلبتُ منه بيتاً يحاكي فيه بيت الملك الضليل، فكتب : وأركب فجراً والنجوم موائلٌ على فرسٍ كالسهمِ في العَدوِ مُرسلِ . قلتُ له جرب مرة أخرى، فقال : أغدو وليلُ الدُّجى لم ينجلِ وعيني على الروعِ الطريدِ المُقِلّ ، ثم شرح لي بيته بالقول الروع الطريد هو الوحش الخائف الهارب، والمُقِلّ المسرع في الهرب. لم يكن مقنعاً، مع أنه أبدى استعداده لكتابة معلقة كاملة على شاكلة معلقة امرؤ القيس أو غيره من شعراء المعلقات.
كنا نقطعُ طريق الدورة باتجاه مقصدنا، وكلما توغلنا في أعماق القرى والنواحي أمثال ناحيتي الامام والنيل مروراً بطريق كيش حيث موقع آثار مملكة كيش السومرية، كنا نتمتع بمشاهد الحقول وبساتين النخيل وقد تركنا زحمة بغداد الخانقة خلفنا وتنفسنا هواءً نقياً مثل نقاء أهل تلك الأرض الطيبة الذين استقبلونا بالفرح والترحاب واهازيج " المهوال " في الاستقبال والوداع . تذكرتُ ما قاله بيل غيتس عن انقراض الكثير من المهن، وتخيلتُ أن ريبوتاً صينياً سيسطو يوماً ما على وظيفة المهوال ويقطع رزقه بأهازيج تلهب حماسة الحاضرين، ولو كانت على شاكلة معلقة الذكاء الاصطناعي التي نسجها على منوال معلقة أمرؤ القيس!