الذكاء الاصطناعي في قبضة الهيمنة: حين تُستثمر التقنية لإدامة التبعية”
كتب / د. معن علي المقابلة
في خضم الضجيج المتصاعد حول “استثمارات العرب” في الولايات المتحدة، وخصوصًا في مجال الذكاء الاصطناعي، لا بد من التوقف والتأمل في خلفيات هذا الحماس المبالغ فيه. فالسردية السائدة التي يتم الترويج لها في بعض الدوائر الإعلامية والسياسية، تصوّر هذه الاستثمارات كخطوة استراتيجية ستحقق عوائد بمليارات الدولارات وستضع المنطقة في قلب السباق التكنولوجي العالمي. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا وأشد قسوة.
ما يجري في واقع الأمر لا يتعدى كونه محاولة لتجميل مشهد سياسي واقتصادي تختلط فيه الغنائم بالتبعية، ويُستخدم فيه الذكاء الاصطناعي كذريعة لتبرير صفقات مُريبة خرج منها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والكيان الصهيوني، بمكاسب ضخمة، وبدعم وتواطؤ من بعض زعماء المنطقة، وبرعاية غربية حثيثة.
لقد أصبحت بعض العواصم العربية شريكة في مشروع يعيد رسم توازنات القوة في المنطقة، دون أن يُسمح لها بتجاوز الحدود التي يرسمها الغرب والكيان الصهيوني. فالغرب لا يمانع أن تبني هذه الدول ناطحات سحاب في الصحراء، أو تطلق مدنًا ذكية براقة، ما دامت هذه الإنجازات لا تشكل خطرًا على ميزان القوة القائم، ولا تمس جوهر الهيمنة.
ad
ولعل ما قاله أحد رؤساء جهاز الموساد ذات يوم يوضح هذه الرؤية الاستراتيجية حين صرّح: “لن نسمح لأي دولة عربية أن تحقق نجاحًا حقيقيًا، حتى لو كان في مجال محو الأمية.” إنها ليست مبالغة، بل تشخيص دقيق لمنطق السيطرة القائم على كبح أي مشروع تحرري أو نهضوي.
في هذا السياق، سيسمح للذكاء الاصطناعي بالدخول إلى منطقتنا، ولكن ضمن أطر محددة بدقة: تنظيم السجلات المدنية، دعم أبحاث جامعية محدودة بغرض الترقية الوظيفية، أو إدارة البنية التحتية للمدن الذكية. أما حين يتعلق الأمر باستخدامه في تطوير الصناعات العسكرية، أو تأسيس قاعدة معرفية مستقلة قد تهدد التفوق الصهيوني، فإن الأبواب تُغلق على الفور.
لقد حُدد السقف المسموح به سلفًا: ممارسات شكلية للحداثة لا تتعدى مظاهر استهلاكية، بينما يبقى جوهر التقدم الحقيقي – القائم على الاستقلال والسيادة التكنولوجية والعسكرية – حكرًا على من يملك مفاتيح اللعبة.
ad
إن جوهر الصراع، كما كنا ندرسه ذات يوم في مناهج تعليمية أكثر وعيًا، ليس صراع حدود يمكن تسويته باتفاقيات، بل هو صراع وجود. ولهذا لم يتردد الكيان في التغلغل في إفريقيا لمحاصرة مصر والسودان، أو في تدمير مشروع المفاعل النووي العراقي، أو في التصدي لمحاولات إيران لامتلاك قدرة ردع نووية. لأن نجاح أي دولة عربية أو إسلامية في امتلاك هذه الأدوات يعني – في نظره – بداية النهاية للمشروع الصهيوني.
لكن رغم كل ذلك، فإن هذا الوضع ليس قدَرًا محتوماً. فلو توفرت الإرادة السياسية الصادقة والواعية، لكان بإمكان دول المنطقة أن تُعيد تشكيل موقعها وتفرض شروطها. غير أن الإشكالية الكبرى تكمن في غياب هذه الإرادة لدى معظم زعماء الأمة، أو في تماهيهم مع مشروع الهيمنة، حتى أصبحوا جزءًا منه، لا أداة مقاومة له.
إن ما تملكه هذه الأمة من إمكانات بشرية واقتصادية كفيل بتحقيق نهضة شاملة، لو تم توظيفه في مشروع استقلالي حقيقي. لكن حين تتحول النخبة الحاكمة إلى وكلاء لمشاريع الآخرين، فإن الحلم يظل معلقًا، حتى يأتي من يعيد للأمة بوصلتها.