لوس أنجلوس.. صراع البنية الفيدرالية والهوية
كتب / كندي الزهيري ||
حين تحاول الدولة تعريف من يستحق الانتماء… وتتمرد المدينة على المركز ، ما الذي يجعل لوس أنجلوس نموذجًا مفصليًا؟… تعد لوس أنجلوس مجرد مدينة. إنها مختبر ديمغرافي، اقتصادي، وثقافي لما ستكون عليه الولايات المتحدة بعد عقد أو اثنين.
بتركيبتها السكانية ذات الغالبية اللاتينية (47% حسب إحصاءات 2023)، واقتصادها القائم على قطاع الخدمات والبناء غير الرسمي، ومشهدها السياسي المحلي الرافض للسياسات الفيدرالية المعادية للهجرة، تمثل لوس أنجلوس نقطة التماس الحقيقية بين رؤيتين متصارعتين لمستقبل أميركا: •رؤية قومية-أمنية ترى في التعدد تهديدًا وتُعيد إنتاج خطاب “السيادة البيضاء” بنسخة ناعمة. •ورؤية تعددية-مدنية ترى في التنوع مصدر قوة اجتماعية وديمقراطية. في هذا السياق، لم تكن المداهمات التي نفذتها وكالة الهجرة والجمارك (ICE) مجرد إجراءات أمنية، بل تمثل، بنيويًا، إعادة ترسيم ملامح العقد الاجتماعي في أميركا… ما الذي تغيّر؟ من “الإدارة” إلى “الاحتلال القانوني”
حين أُعلن عن إرسال ترامب 2000 جندي من الحرس الوطني إلى المدينة بقرار رئاسي فردي، بدا وكأن الدولة الفيدرالية قررت الدخول في نمط إدارة فوقي للمدن المتمردة، في سابقة لم تحدث منذ احتجاجات الستينات حسب المصادر . لا تنبع الخطورة من عدد القوات، بل من الفكرة الكامنة وراء القرار: تحييد الإرادة المحلية وفرض سلطة مركزية على فضاء مدني معارض. ميركا التي قامت على التوازن بين “الدولة والولاية”، أصبحت تميل – ولو بشكل تدريجي – إلى فكرة السيادة الأحادية التي تتجاوز الفيدرالية. في هذا السياق، لم يعد الدستور يُحتكم إليه، بل يُستخدم كأداة تكتيكية ضمن صراع سياسي يتخذ طابعًا إداريًا وأمنيًا. • البنية العميقة: هل تستهدف ICE الهجرة أم التعدد الثقافي؟… ما يُحاول كثير من المراقبين تفكيكه هو البنية الأعمق لهذه السياسات. ففي حين يُروّج الخطاب الرسمي لأن هذه المداهمات تستهدف “المهاجرين غير الشرعيين”، إلا أن الواقع يؤكد أن كثيرًا من المعتقلين هم من العمال الشرعيين، أو حتى المقيمين الحاصلين على تصاريح قانونية….هذا يدفع إلى سؤال استراتيجي:
هل تقاتل الدولة الهجرة غير النظامية، أم أنها تقاتل ملامح أميركا المستقبلية؟…
في ظل التغيّر الديمغرافي السريع (توقعت مراكز الدراسات أن يتحول البيض إلى أقلية بحلول 2045)، تصبح سياسات “التطهير الإداري” وسيلة مؤسساتية لتأخير هذه التحولات. وهكذا، تعمل وكالات مثل ICE كأدوات هندسة سكانية، تهدف إلى إعادة تعريف من يُسمح له بأن يكون أميركيًا… ومن لا يملك هذا “الامتياز”. وبين المدينة والدولة: تصادم نماذج للسيادة، ما يجري في لوس أنجلوس ليس سوى فصل من فصول أعمق تتعلق بتآكل النظام الفيدرالي الأميركي،
إذ باتت المدن الكبرى – من نيويورك إلى شيكاغو إلى لوس أنجلوس – تُنتج نماذج مدنية ديمقراطية، متعددة الإثنيات، وتدير شؤونها المحلية بروح يسارية-تصالحية. في المقابل، تزداد السلطة المركزية ميلاً إلى نمط أمني مركزي، يعيد إنتاج مفهوم “الدولة-المراقِبة”، هذه المدن لا تعارض واشنطن على تفاصيل فنية، بل على فكرة الدولة ذاتها. وهي، بهذا المعنى، تخوض مواجهة مع مفهوم قديم للسيادة، يريد فرض سلطة بلا تمثيل، وقانون بلا موافقة، النتيجة: الدولة تواجه انفصالًا ناعمًا
حين ترفض مدينة استقبال جنود الحرس الوطني، وتتحداهم في الشوارع، وتعلن بلديتها أن “واشنطن لم تعد تمثلنا”، فنحن لا نشاهد احتجاجًا، بل أول ملامح الإنفصال الناعم داخل الإتحاد الأميركي ، لا يتعلق الأمر بكاليفورنيا فقط، بل بتنامي ظاهرة “المدن المقاومة”، التي تُعيد تعريف المواطنة، وتتمسك بسلطتها المحلية كحق سيادي في وجه تغوّل الدولة الفيدرالية. وهذه المدن باتت تفكر بمفردها، وتنظم نفسها قانونيًا، وتمول سياساتها الإجتماعية دون إنتظار واشنطن…هذا الإتجاه يفتح الباب أمام ما يمكن تسميته:
”فيدرالية الحواضر الكبرى” مقابل “مركزية الأطراف البيضاء”. أميركا على مفترق طريق وجودي، لقد تحوّلت قضية الهجرة من نقاش حول أوراق ثبوتية إلى معركة على شكل الدولة، ووظيفة القانون، ومفهوم الانتماء. لم تعد لوس أنجلوس تطرح أسئلة عن المهاجرين فقط، بل عن من يحكم، ولماذا، ولأي غاية،
وفي لحظة كهذه، يصبح السؤال المشروع: هل ما زالت الولايات المتحدة قابلة للاستمرار كنموذج فيدرالي، أم أنها تنزلق بهدوء نحو دولة بوليسية بقناع ديمقراطي؟…الزمن، والانتخابات القادمة، والتفاعلات المدنية، كلها عناصر ستحدد مستقبل هذا النموذج. لكن ما لا يمكن إنكاره، هو أن ما حدث في لوس أنجلوس، ليس استثناءً… بل نذير عهد جديد.