حين لا تكفي النوايا : القوة كشرط لحماية الحق وبناء الدولة .؟
كتب / طه حسن الأركوازي ||
ليست المُعضلة في العراق اليوم نقص الشعارات أو غياب الخطاب الأخلاقي ، فالنوايا الحسنة حاضرة في كثير من الخطب والبرامج والوعود ، بل تكمن الإشكالية الأعمق في الفجوة الواسعة بين الحق بوصفه قيمة معنوية ، والقوة بوصفها أداة تنفيذ وحماية ، فالتجربة السياسية المعاصرة في العراق كما في غيره أثبتت أن الحق الذي لا يستند إلى قوةٍ تحميه يبقى هشاً ، قابلًا للتأويل والتجاوز ، بل ويُستعمل أحياناً كزينة لغوية في المناسبات ، لا كقاعدة حاكمة لصناعة القرار .
في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ، لا يُنظر إلى القوة بوصفها نقيضاً للأخلاق ، بل بأعتبارها الإطار الذي يمنح القيم قابليتها للحياة ، وتشير دراسات صادرة عن مؤسسات بحثية رصينة مثل معهد “بروكينغز” و”مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي” إلى أن الدول الخارجة من النزاعات أو التحولات العميقة ، حين تكتفي بالخطاب القيمي دون بناء أدوات قوة مؤسسية ، سرعان ما تعود إلى دوامة الاضطراب وضعف السيادة ، وتآكل الثقة بين الدولة والمجتمع ، وهذه الخلاصة لا تُقال للتبرير أو الإدانة ، بل للفهم الواقعي لمسار الدول في مراحلها الانتقالية .
“العراق” ، بعد أكثر من عقدين على التغيير السياسي ، ما زال يعيش هذا التناقض ، فالحقوق الدستورية واضحة ، والنصوص القانونية موجودة ، والبرامج الحكومية تعلن أهدافاً طموحة في الإصلاح والتنمية وحماية السيادة ، لكن الإشكال يكمن في غياب القوة المؤسسية القادرة على تحويل هذه النصوص إلى واقع فعلي . القوة هنا لا تعني العنف أو القسر ، بل تعني دولة قادرة على فرض القانون بعدالة ، وحماية القرار الوطني ، وإدارة الموارد ، وضبط الأداء الإداري والاقتصادي بمعايير مهنية .
تؤكد تقارير “البنك الدولي و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” أن الدول التي عانت من أنقسامات داخلية حادة ، مثل “كولومبيا أو البوسنة والهرسك” ، لم تبدأ مسار التعافي الحقيقي إلا عندما أنتقلت من مرحلة “إدارة التوازنات الهشة” إلى مرحلة “بناء مؤسسات قوية محايدة” قادرة على تطبيق القانون دون أنتقائية ، وحماية الحقوق دون تمييز ، في هذه التجارب ، لم يكن الخطاب الأخلاقي كافياً ،
بل كان لابد من قوة الدولة بوصفها مرجعية نهائية ، تُنهي منطق النفوذ الموازي ، وتعيد الاعتبار للشرعية الرسمية .
في الحالة “العراقية” كثيراً ما يُرفع شعار “الحق” في مواجهة الأزمات السياسية أو الاقتصادية أو السيادية ، لكن هذا الحق يبقى مُعلقاً ما لم يُدعم بقوة القرار ، ووحدة الرؤية ، وقدرة الدولة على تنفيذ ما تقرره ، فالقرارات المصيرية ، كما تُظهر التجارب الدولية ، لا تُصنع بالنوايا وحدها ، بل بأمتلاك أدوات التأثير مثل “مؤسسات فاعلة ، إدارة كفوءة ، أقتصاد منتج ، وسياسة خارجية تعرف كيف تحمي المصالح لا كيف تكتفي بتسجيل المواقف” .
من المهم الإشارة هنا إلى أن بناء القوة لا يعني إقصاء الشراكة السياسية أو تجاهل التعددية ، بل على العكس ، يعني تنظيمها ضمن إطار الدولة لا خارجها ، فالدول التي نجحت في تجاوز مراحلها الحرجة ، مثل “إسبانيا” بعد الانتقال الديمقراطي أو “تشيلي” بعد الحكم العسكري ، لم تفعل ذلك عبر تهميش القوى السياسية ، بل عبر إخضاع الجميع لقواعد مؤسسية واضحة ، حيث يصبح الحق مصوناً بالقانون ، والقانون محمياً بقوة الدولة لا بقوة الجماعات أو التوازنات المؤقتة .
الرسالة التي يمكن توجيهها اليوم بنبرة ناصحة ومسؤولة إلى الطبقة السياسية العراقية ، هي أن الدفاع عن الحق يبدأ ببناء القوة التي تحميه ،
قوة الدولة لا قوة الأحزاب أو الأفراد ،قوة المؤسسات لا قوة الشعارات ، فأستمرار الفصل بين الحق والقوة يعني بقاء الدولة في حالة “اللا حسم”، حيث تُعلن المبادئ لكن لا تُنفذ ، وتُرفع الأهداف لكن لا تُحقق ، وتُدار الأزمات بدل أن تُحل .
أخيراً وليس آخراً .. إن العراق يمتلك من الإمكانات البشرية والاقتصادية ما يؤهله لبناء هذه القوة المؤسسية ، لكنه يحتاج إلى قرار سياسي واعٍ يدرك أن الحق بلا أدوات حماية يتحول إلى عبء رمزي ، لا إلى مشروع وطني ، فالقوة حين تُبنى على أسس قانونية وأخلاقية ، لا تُهدد الحق ، بل تمنحه أنيابه المشروعة في عالم لا يعترف إلا بمن يعرف كيف يحمي خياراته .
وفي لحظة إقليمية ودولية شديدة التعقيد ، يصبح هذا الإدراك ضرورة لا ترفاً ، فالدول لا تُحترم بنواياها فقط ، بل بقدرتها على تحويل هذه النوايا إلى سياسات نافذة ، وقرارات محترمة ، وواقع يشعر به المواطن قبل أن يقرأه في البيانات ، هنا فقط يخرج الحق من كونه قصيدة تُتلى في المناسبات ، ليصبح قاعدة حاكمة لمسار الدولة ومُستقبلها …!