يأجوج ومأجوج الرقمي.. ماذا فعلت ا ثورة الفيديو الرقمية وكيف ولدت الاضطراب في عُقول أجيال كاملة؟
كتب/ خالد شـحام
أينما تذهب ببصرك أو تحاول التفكر بما تراه من سلوكات فردية أو جماعية ستجد بأن هذه المجتمعات التي من حولك تطرأ عليها انقلابات سلوكية تكاد معها تقر بأن الجنون هو سمة العصر، هنالك شيء ما في هواء هذا الزمان يبدو أنه يدفع البشر إلى النزول عن مكانة التكريم التي منحت لهم .
في سنوات منسية من تلك التي يلوذ بها الحنين ليواري وحدته لا أزال أتذكر جيدا كيف كنت أقضي ليال طويلة في قراءة الكتب بعيدا عن ضوضاء التلفاز والجلسات هنا وهناك، كنت أتحين فرص الفراغ والعطلات الدراسية كي أختلي بنفسي مع كتاب ما وفي مرحلة متقدمة عدة كتب، كنت أتمتع بنهم غير تقليدي في ابتلاع محتوى الكتاب خلال أيام قليلة ولذلك رحت أبحث عن الكتب الأكثر صعوبة أو الأبلغ في محتواها ورسائلها والأكثر سمنة في ورقها، بعد شوط لا بأس به من هذا النمط أصبحت أشعر بأن حديقة أو مساحة مزروعة مسورة تنمو من حولي و ترافقني وتلحق بي حيثما ذهبت وتكسب عقلي وبالسر تفوقا ومكانا يركض فيه كيف يشاء دون أن يرى أحد شيئا من ذلك، مضت السنوات و الحديقة تتسع وتتمدد إلى الحد الذي أصبحت فيه قادرا على رؤية وتحليل أشياء والحكم على الكتاب وتفكيك عقلية كاتبه بل وحتى التعديل والإضافة عليه إذا شعرت بذلك، كان ذلك سرا صغيرا لمصدر سعادة صغيرة على مقاس الفقراء .
كل هذا الرصيد الجميل بدأ يتعرض للغزو و يعاني من تراجع قوته وتعب ساقيه وفقدان الطعم مع اللوث الذي صاحب الثورة العولمية والرقمية التي أطلت برأسها وبتسارع مركبة فضائية في كل تفاصيل حياتنا، لم نعد نسيطر على شيء بل أصبحت قوة الدفع الجديدة النفاثة تنفخ بنا كالريح لنمضي في انقلابات وتغيرات غطت كل العالم زادت فيها الوحشية والهمجية والسرعة وانحدرت قيمة الانسان وارتفعت نسب الجرائم وزادت أعداد المجانين، فكيف حصل مثل ذلك ؟ وما علاقة الكتاب والقراءة ومقطع الفيديو بكل هذا ؟
في الفترة التي سبقت انتشار الكتاب بالمقياس الضخم كانت مَلَكات الحفظ والتذكر تتجلى في أعلى قوتها مع المجتمعات ولكن مع حلول ربيع الكتاب وذروة تأثيره في عقول الاجيال كانت النتائج الظاهرة مغايرة ومرتبطة بقوة بارتقاء مهارات عقلية جديدة من القدرات التصويرية والذائقة البصرية التخيلية العجيبة للصوت والموسيقى ونبرات الاصوات وسحر الشخصيات ولذة أفعالها ، تطورت لدى العقول مكتبات فرعية خاصة لتحليل الرموز والشيفرات البيانية ورصد الصور والمعاني الخفية في النصوص، برزت مواهب مميزة في تلوين الحاضر والماضي والرومانسية والتاريخ بكل الجماليات المودعة في النفس البشرية وسطوة ابداعها، الرصيد الدماغي الذي كان مرصودا ومخصصا لتخزين القصائد وحسن الكلام وبديع الخطب قبل ظهور الطباعة تم تحويره وإعادة تجديده للثورة الجديدة التي صنعها الكتاب او النص المقروء وبدلا من مهارات الحفظ والتلقين وطلاقة اللسان اتجهت القدرات العقلية نحو التحليل والإلهام والخيال بوصفه موهبة فـذة للعقل البشري ، حلت العين محل الاذن وتحولت الى قناة ترجمة ما بين النص والقدرة الضخمة للدماغ البشري لتحويل هذه النصوص الى عوالم جميلة يرسمها العقل بنفسه في ابهى ما يريد ولذلك لا تزال النصوص الوصفية لمشهد او صورة اقوى من الصورة نفسها، وتكون القصص المكتوبة دوما اجمل من الافلام التي حاولت تجسيد تلك القصص، ولهذا السبب يمكنك قراءة نص جميل والاستمتاع به لعدة مرات متوالية ولكنك لن تفعل ذلك لمقطع فيديو .
في الثورة الرقمية انجرفت البشرية والجهود العلمية كعادتها في تسخير وتطويع الأشياء لتكون الأكثر راحة والأسهل وصولا والأكثر متعة ولذلك تحولت النصوص التي تروي حدثا أو قصة أو خبرا الى مقاطع مصورة أو متحركة وعند ذلك انتقل العقل البشري من منزلة المبدع والمتخيل والمتفكر الى منزلة المتلقي المطفىء البصيرة الذي يقتصر وعيه وفهمه على ما يراه وما يتم وضعه داخل خلاياه واعصابه البصرية من لون وحركة ومثيرات ضوئية وانتقلت العمليات التفاعلية من عمق الدماغ الى قشرة الدماغ ومراكز التحليل الأقل جهدا والأكثر سرعة وسطحية، باختصار جديد تم نقل طاقات العقل وملكاته ومواهبه وتحويلها الى وجبات جاهزة فورية يحصل عليها المواطن العالمي من خلال المقاطع المصورة التي ألغت اللغة وحطمتها وحولتها الى مختصرات واختزالات تافهة ايحائية وانحط العقل درجتين او ثلاث وخسرت اللغات هيبتها وعمقها وقوة تأثيرها في شعوبها وكانت العربية هي الضحية الأكبر شأنا على يد أهلها المترهلين المهملين والجاهلين عن قوتها .
لقد تحول العقل البشري في مطلع الثورة الرقمية من منزلة الدائن إلى منزلة المدين وأغفل قواه وقدراته وتنازل عنها لصالح الحواسيب والهواتف النقالة والقنوات الفضائية وبالتالي خسرنا القدرة على الفهم والوعي والتحليل والمحاكمة العقلانية المنطقية وتحولت الفلسفة الى احفورة تاريخية ومن موات كل هذه المتغيرات صار من المنطق أن الخصائص الوجدانية المرتبطة بمهارات العقل راحت تتلاشى تدريجيا وتحل محلها قيم رقمية جديدة جافة أساسها المادة وتقديس المكتسبات الايحائية الكاذبة والمعنوية الفراغية وأصبحنا نبحث عن كسب اللايكات والاعجابات والمشاركات التي لا تعني شيئا سوى السخف والانصياع لقواعد الرقمية الجديدة المصمتة.
إن الثورة المعرفية القائمة على الكتاب منحت العقل قوى مضافة وقنوات ثانوية من الجماليات الابداعية المتوازنة السرعة بينما منحتنا الثورة المعرفية الرقمية السرعة والكثافة والكثرة والتنوع ولكنها انتزعت الاطمئنان وكرست الحيرة والقلق وتعدد الخيارات وقصرت شعورنا بالمدى الزمني وعرت الايمان من رويته وحكمته ومنحتنا ثقة زائفة، لقد عززت الجهلة والسفلة ومنحت الجماعات المختلفة من طفيليات الإنس الأداوت الكافية لصعودهم وارتقاء رذائلهم فوق الخلق تحت شعارات مزيفة مرواغة مخادعة من الحريات والحقوق المتساوية التي اورثت الجميع الغرق في مستنقع من الأوساخ الرقمية الهائلة الانتشار والمعززة بكل وسائط السرعة والدعم والرغبات الادمية الدنيئة .
ان العبث الهائل الذي احدثته الثورة الرقمية بعد انفلاتها من صندوق العقلانية كوريث للكتاب انفجرت في وجهنا جميعا و احدثت ضررا بليغا في عدد القارئين الهزيل من اصله وسببت نزقا وعزلة وغربة اكبر عنها وتحولت المواد المصورة والمتحركة الى الوسيلة الاكثر راحة وسرعة للعقل في الاختيار ومن هذا الباب صار الفيديو بوابة الخطر الكبرى على العقل والوعي البشري في كل القضايا .
إن ثورة الفيديو الرقمية أعفت اللغة من مهمتها وبالتالي رفعت من أسهم فاقدي اللغة والذين يتمتعون بمعاملات عالية من القيم العكسية والتعميم هنا ليس صائبا، وهنا تماما أصبح التافه والبذيء وعديم القيم قادرا على منح شيء من ( ابداعاته ) في ظل غياب الضوابط والمعايير، خلال سنوات قليلة طفت على سطح المشهد كتلة هائلة من الزبد والرابش والفضلات التي لم يكن يلحظ أحد وجودها، كميات مهولة من المجانين والمختلين عقليا وخلقيا ومعيشيا والذين كانوا يعيشون بيننا كمخرجات ومنتوجات من المدارس والجامعات والتعليم العربي الفاشل ، ظهرت أعداد مرعبة من أصحاب ( المواهب ) المختلفة التي تقتصر مهمتها على سكب المزيد من هرمونات الاضحاك القسري والرخيص واستدعاء التسلية من غدد العدمية والعبثية في عقول المتفرجين النهمين، جاءتنا أعداد بالملايين من الذين ركزوا على القضايا الثانوية والشكلية من الموضة والمكياج والطهي والسخافة والتصوير وتربية الكلاب والميوعة والتحلل ومن حيث لا أحد يدري تم تقليم المساحات الخضراء التي زرعتها ثورة الكتاب من العلم والثقافة والادب العالمي والفقه الديني والتاريخ واللغات وتم قضمها شيئا فشيئا حتى تحولنا جميعا إلى أميين وأشباه متعلمين وأشباه بشر لأن الزبالة الرقمية عبأت تاريخنا وجداولنا واهتماماتنا .
أحد الفوارق الجوهرية التي ظهرت بين ثورة الكتاب وثورة الفيديو هي مسألة توليد معامل السرعة، ومعامل السرعة في هذه الحالة يعني الحصول على قدر كبير من البيانات في زمن ضئيل فكمية المعلومات التي يمنحها الفيديو لا تحتاج سوى البصر وبعض التفكير المحدود بينما تتطلب الصورة المكتوبة صفحات أطول وقدرات دماغية أعلى، وبذلك تعرض العقل البشري الى الارهاق المستمر من كثافة التلقي وعدم ترك أية فسحة للتفكر او التحليل أو التروي وسينتج ونتج عن ذلك عبث عصبي قسري في الدماغ مرفق بتغير السلوك والذائقة والاتجاهات الحياتية ، لقد وضعت ثورة الفيديو الرقمية الجميع في منزلة التلقي قسرا لأنه لا وقت لتقول كلماتك ولا لكي تفكر بل عليك أن تتلقى فقط، نتيجة كل ذلك أصبح الاحساس بالعمق الزماني ضحلا ومحدودا وصارت الأيام مثل السراب، غاب عنصر التمهل والتدرج المتفق فطرة مع خلق الإنسان وطبائعه وحل محل ذلك معامل السرعة الذي لا يرحم مع المحتوى التافه والسفيه.
من إحدى الأشياء الغريبة التي أتذكرها والتي تبلورت جيدا بعد سنوات من قراءة الروايات والتاريخ والعلم والفكر أنه عقب كل قراءة كانت تتولد رغبة جامحة في التعرف إلى الأفراد والاختلاط وتذوق نكهات الشخصيات التي تحاول استكشافها من خلال جاذبية روح الكتاب، الشيء الأكثر غرابة في وقتنا الراهن أن مشاهدة المحتوى الرقمي المقدم على شكل فيديو أو مقطع مصور ربما ولد لدي شعورا مغايرا تماما وبهذه الطريقة ارتفع معامل الغربة أكثر !
لقد خرج استخدام مقطع الفيديو من صندوق الغايات النبيلة التي يمكن افتراضها لوجوده، لقد تحول إلى أداة العولمة القصوى التي خلطت الأوراق بشدة وتحول الفلاح والمزارع البسيط إلى رأسمالي يفكر بالإلحاد وتحول العجوز الركيز الأديب إلى مراهق يبحث وراء الأكمات عما يعتقد أنه فاته وتم دفع المرأة عن حافة جسر الفضيلة نحو هاوية المجهول والسعي وراء أحلام لا وجود لها وتم فتح بوابة عوالم من المتعة حولت الشبان إلى شياطين في حلة آدمية، لقد تم الزج بالبشرية في حالة من الضغط العصبي والعبث بالدماغ وهرمونات الجسد إلى النقطة التي فقدنا فيها عقولنا ورشدنا، لذلك تغير نمط الطعام ونمط المعيش ليوائم الادمان الجديد ويعزز من بقاءه ، ثورة الفيديو هي جزء لا يتجزأ من خطيئة العصر عندما رجحت كفة البذاءة وغمرت كل البشرية بهذا القدر من الانحطاط والوحل خاصة عندما سخرت للغايات الرأسمالية التجارية ولذلك لم يعد أحد قادرا على صنع فكرة التربية أو التعليم لأجل حياة أفضل أو العيش لأجل خدمة الإنسانية والإحسان كظاهرة كونية، لقد أحدثت البشرية ثقبا كبيرا في جدار الأمان الخاص بها وأدخلت على نفسها يأجوج ومأجوج الرقمي الوهمي وفعل فعله بأِشد مما فعلته جيوش المغول سواءا بقصد أو دونه وكل ذلك حدث لأن القاعدة الأخلاقية التي تقف وراء كل الحكاية غائبة ومغيبة وخاصة على يد دولة مثل الولايات المتحدة التي تسوق فكرة العولمة القاتلة والفتاكة .
في نهاية هذه المقالة المخيفة سنقول بضع كلمات ثم نرحل بأن مقطع الفيديو هو أداة الفتنة في العصر الرقمي ويتحمل مسؤولية كبيرة في العبث والتحوير الذي نشهده وذلك عندما نضع أنفسنا أمامه ونستسلم لما يضعه في عقولنا دون غاية ولا هدف ولا فهم ، هذا بالضبط ما يصنعه ( التيك توك ) وغيره من مواقع العرض المجاني تحت ذريعة الاطلاع والمتابعة ورؤية عالم متوحش من الانحطاط البشري في حلة من التطور والتشابك العولمي المفتوح، فلنسمع منكم آراءكم.